أثناء دراستنا العمارة بهندسة عين شمس، كنا نستعير المَراجعَ من مكتبة المركز الثقافى البريطانى بالقنصلية المطلّة على نيل العجوزة. أمتع لحظات أعمارنا النحيلة، قضيناها هناك، نقرأ ونكتب أبحاثنا، ونحن لا نعرف من أين نبدأ، ولا أين ننتهى، وحولنا كل تلك الكنوز الفكرية من فلسفة وعلوم وعمارة وفنون وآداب، ما يجعل المرءَ يتحسّر أنْه لن يعيش ألف عامٍ، لكى يُنهيها! وقبل عام، أطفأت المكتبةُ شمعتَها الأخيرة، وأغلقت أبوابها، بعد خمسة وسبعين عامًا من الإشراق. لماذا؟ لأن أحدًا، تقريبًا، لم يعد يرتاد المكتبة! نذكرُ دمعةً خاتلت عينى «كاثى كوستين»، آخر أمناء المكتبة، وهى تودّع حبيبتها المكتبة، بصوت يتهدج قائلة: Farewell Sweet Heart!. يومها قال «بول سميث»، مدير المكتبة، إن أبواب المكتبة توصَدُ بسبب ضعف ارتباط المصريين بالقراءة! فأنْ يرتاد المكتبةَ 2000 مواطن سنويًّا، من أصل مجتمع قُوامه ثمانون مليون إنسان، فذاك مؤشر خطير! علّق الأستاذ محمود أبوالوفا، على مقالى السابق، بأنْ اقترح إنشاءَ مكتبة صغيرة فى مدخل كل عمارة، يقوم عليها أحد السُّكّان لتنظيم الإعارة، علّها تكون خطوة فى اجتذاب الشباب للكتاب. وذكرنى هذا المقترح «بالجرثومة» الأولى التى زجّت بى إلى ذلك العالم الساحر. فأنا أؤمن أن ثمة جرثومةً، إن ضربتك يومًا، لوقعتَ من فورك فى شَرَك الكتاب، فلا تبرحه، ولا يبرحك. جيراننا بالدور السابع كانوا «يعزّلون» إلى مكان آخر. الشيّالون يحملون صناديق الأغراض إلى الشاحنة أسفل العمارة، وكنت عائدة من المدرسة، وما أن دخلتُ المصعد، حتى لمحتُ كتابًا يسقط من أحد الصناديق. فكّرَ الشِّقُّ «الطيبُ» داخلى فى أن أنبه الرجلَ لما سقط منه، لكن «اللصَّ الشريرَ» داخلى انتصر، فالتقطتُ الكتاب وأخفيته فى حقيبتى، وصعدتُ إلى شقتنا بالثالث، وقتها كنت أقرأ المكتبة الخضراء وألغاز المغامرين الخمسة، وأرسين لوبين، وأجاثا كريستى وهيتشكوك. لكن الكتابَ «المسروق» كان جديدًا على ثقافتى. عنوانه «أحدب نوتردام» للفرنسى العملاق فيكتور هيجو. يومها خبأتُ الروايةَ داخل كتاب التاريخ، «الغلس»، أسترق منه مثل «خِلسة المُختلس»، بعيدًا عن عين أمى، حتى أنهيته. ما زلتُ أذكر كمَّ المتعة الخرافية التى اعتمرتنى لساعات، وظلّت تحلّق بى من سماء إلى سماء حتى وصلتُ إلى الفردوس الأعلى من النشوة، مع أزميرالدا الجميلة، والأحدب كوازيمودو، وأجراس كنيسة نوتردام. منذ ذلك اليوم وأنا أطارد تلك النشوة دون كلل، وأتتبع آثارها، من كتاب إلى كتاب، ومن ورقة إلى ورقة، ومن كلمة إلى أخرى. نشوةٌ عارمة، لا هى ترتوى، ولا الكتبُ تنفد. أقول لشباب بلادى، الذين فى أعناقهم وحدهم مستقبلُ البلد، دعوا الجرثومةَ الطيبةَ تضربكم. جرّبوا لسْعتَها النبيلة، واستسلموا لخَدَر مَصْلها الساحر، حتى تدمنوا إكسيرها، ولن تندموا. فمن المخجل حقًّا، أن توصِدَ مكتبةٌ بريطانيةٌ أبوابَها فى بلد علّم العالمَ القراءةَ والتدوين. بلد كان يومًا معقلَ العلم والفكر والفن، ومعقل أوراق البردى وأدوات الكتابة. البلد الذى شيّد أولَ مكتبات التاريخ فى معابده الفرعونية، قبل سبعين قرنًا. والبلد ذاته الذى اختاره الإسكندر الأكبر وخلفاؤه البطالمة، قبل ثلاثة وعشرين قرنًا، لكى يشيدوا على أرضه أهمَّ وأكبرَ مكتبةٍ عرفها التاريخ، ببلتيكا دى لو اكسندرينا، التى ضمّت بين رفوفها 700 ألف مجلد، لتعبر السنوات والقرون، قبل أن يحرقها «مَن أحرقها»، ويدمّرها «الذى يُدمِّر»! فظلت مصرُ النبيلةُ تبكى طفلتها، مثلما بكت كاثى حبيبتها، إلى أن شاء القدرُ أن تبنى مصرُ لنفسها مكتبةً أخرى قبل سنوات، هى واحدة من أعظم صروح العالم الراهن. مكتبة الإسكندريةالجديدة. بالقراءة والمعرفة، نعيد لمصر بعض بريقها الذى خَفُت! [email protected]