هل يمكن أن أستأذنك فى النظر لأعلى قليلا لكى تقرأ عنوان بريدى الإلكترونى.. إنه فعلا «تماهى»، وهى كلمة غامضة رغم شيوعها بين فئات من المثقفين، وقد كتبت لسنوات رواية بهذا العنوان، ولدىّ مدونة بهذا الاسم أيضا تتضمن تلك المقالات التى توقفت بعد احتلال العراق، واحتلال قطعة جديدة من مساحات التفاؤل فى نفسى، والأهم أن لدى رواية لم، وربما لن، أكتبها بعنوان «المتماهى.. مشروع رواية العمر».. ويعرف أصدقائى الذين يطالبوننى دوما باستكمال هذه الرواية، أننى أفشل دائما فى استكمالها، ليس بسبب الكسل، ولكن لأننى أعيشها، فهى رواية مفتوحة، متماهية مع الواقع بدرجة يصعب معها أن تستقر على حال، وأنا للأسف مثل روايتى متماه، والمتماهى ياسادة أقرب الناس للذوبان والجنون، لأنه يعانى من أزمات الواقع أكثر من غيره، فنحن نقول يتماهى مع الوطن، أى يصبح هو الوطن، وكلما أصاب الوطن ضرر، لا يتعاطف المتماهى معه، لأنه «هو الوطن»، فيشعر بالضرر وكأنه يصيبه شخصيا، ويقولون إن اشتقاق الكلمة جاء من محاولة «أن تكون أنت هو»، أى أنك تضع نفسك دوما مكان الآخر، فتشعر بمعاناة الجائع، ومذلة المهان، وغضب الثائر.. إلخ، وبما أن الوطن فى أسوأ حال، فأنا يا سادة فى أسوأ حال، صحيح أننى «أقاوح» وأتحدث كثيرا بطريقة «ماتقدرش»، وأنا أعلم أن الطرف الآخر يستطيع بسهولة أن «يفعصنى»، لكن ما باليد حيلة، و«بما إننا عايشين حياة زيها زى الموت، يبقى نموت بكرامة أحسن مانعيش فى ذل»، وخلال الفترة الماضية، شعرت بأننى بدأت أتعلم آفة جديدة، وهى آفة التوازنات، و«أقول عيب مايصحش تقول كذا عشان فلان هيزعل، وفلان كان صديقى، والجملة دى جارحة لناس أكلت معاهم عيش وملح»، أنا الذى كنت أردد دوما مقولة «الحق لم يجعل لى صاحبا» مفضلا أن أكون وحيدا، كأبى ذر على أن أكون نجما يتخذ من شعرة معاوية منهجا، أنا قضيت معظم سنى العمر فى «المقاوحة» أحاول الآن أن أبدو مجاملا، لذلك تخرج كلماتى ناقصة، والتلميح فيها أكثر من التصريح، وأقنعت نفسى بآليات جديدة على طريقة «كل لبيب بالإشارة يفهم» ولا داعى للفجاجة وكلام السوقيين على طريقة أن أقول للأعور أنت أعور فى عينه، فهذا فى نظرى ليس من الذوق خالص، لكننى شعرت بمزيد من الوجع، والأخطر أننى شعرت بمزيد من الاستهبال الذى يضر بمصلحة الوطن، وبما أننى «الوطن» بالمعنى الشعبى على طريقة (فى الفرح منسى وفى الهم مدعى)، على عكس الآخرين الذين يرون أنفسهم الوطن (بالمعنى السلطوى) على طريقة «أنا الدولة» المنسوبة للويس الرابع عشر- فليس أمامى إلا أن أعود من جديد لنهج أبى ذر، خاصة أننى بدأت فى المقال الماضى الحديث عن أزمة بيع صحيفة «الدستور»، فوجدت نفسى مضطرا للحديث عن أزمة بيع الأوطان، لقد أصبحت حمّى البيع فى مصر وباء مهلكاً يجب أن ننتبه إليه ونتقصى ما وراءه، والمصيبة «السودة» أننى اكتشفت أن المعلومات التى تفزعنى ليست سرا، لكن الناس تعرفها، وبعضهم يساعد عليها ويرتزق منها. قد يتصور البعض أننى أكرر الحديث عن «الدستور» ونسبة صديقى إبراهيم عيسى من أسهمها، وعزوفه عن دعم نضال صغار الصحفيين من أجل تأمين رواتبهم الصغيرة وحقهم البدهى فى التعيين والاستقرار قبل البيع وبعده، لكننى لا أتحدث عن هذا، فهو مجرد عرض لمرض، و«بمبة عيد» بالمقارنة بمخاطر القنبلة النووية التى تهدد بتدمير مستقبل مصر كلها، فقد عرفت من خبير كبير من شرفاء هذا البلد أن هناك خطة شاملة لبيع مصر، يتم تنفيذها بدأب وبسرعة مخيفة، ويشارك فيها نجل كاتب سياسى وطنى كبير وأسماء لامعة فى مجال السياسة والاقتصاد، وهو ما سأكتبه فى الأسبوع المقبل إذا كتب لى العمر. [email protected]