يتذكر العالم، اليوم، اغتيال الثائر الأشهر ارنستو جيفارا، الذى أعدمته المخابرات الأمريكية فى أحراش بوليفيا فى خريف عام 1967، فيما كانت مصر تلعق جراح هزيمة يونيو، وعبدالناصر يسعى لمحو آثار الهزيمة، وفى ذلك الوقت تعمدت أمريكا التمثيل بجثة جيفارا ونشرت صوره قتيلا ومشوها، لكن صورة الثائر الكونى انتقمت لنفسها سريعا عندما نشرت مجلة تشيلية صورة «تشى» بالكاب العسكرى والنجمة الكوبية الحمراء، سرعان ما تلقفها شباب العالم لتصبح أيقونة للثورة فى كل مكان، وظللت لسنوات واحدا من الملايين المبهورين بصورة وسيرة جيفارا، وحلمت كثيرا فى صباى بتكوين جيش عالمى لمحاربة الاستعمار والإمبريالية (فاكرين الكلمة دى؟)، ما علينا، المهم أننى، منذ أيام قليلة، كنت أشاهد فيلما إيرانيا سعى لتقصى حياة جيفارا عبر لقاءات مع ما تبقى على قيد الحياة من رفاقه وخصومه ومعارفه، وطبعا استعدت فكرة تكوين الجيش العالمى، وسرحت بخيالى فوجدت أن أسامة بن لادن سبقنى إلى الفكرة وأسس نموذجا مذهلا لجيفارا إسلامى لم تستطع جيوش أمريكا أن تصل إليه برغم جبال المتفجرات التى هزت متاهات تورا بورا، حيث راهن C.I.A على وجود بن لادن. وسألت نفسى: يا ترى لماذا لم يلمع نموذج بن لادن كما لمع نموذج جيفارا؟، هل العمامة والسواك أقل إبهارا من الكاب والسيجار؟ وهل أسأنا نحن إلى نموذج بن لادن النضالى وخجلنا من أيديولوجيته التى تتخذ من الدين مرجعية وحيدة، بعد أن تعودنا على مفاهيم اليسار المستمدة من فلسفات وتطبيقات غربية، أم أن بن لادن هو الذى أساء لتجربته نتيجة تورط تنظيمه فى سياسات بدت وحشية وبدائية ولم تستثمر البعد الإعلامى ومخاطبة الآخر الذى لا ينتمى بالضرورة للمرجعية التى يعتنقها بن لادن؟ الحقيقة أن المفارقات أعجبتنى، والأسئلة التى بدأت تتوالى حفزتنى للبحث عن تفسير لظاهرة التفرقة بين نموذج ثائر احتفى به العالم، رغم موته، ونموذج ثائر تحول إلى صورة نمطية لإرهابى مطارد، رغم بريق فكرة التصدى للهيمنة الأمريكية، ورغم ظهوره بمظهر البطل الروائى الأوحد فى مواجهة غطرسة إمبراطورية أخضعت الأرض بمن عليها، وتذكرت أن أبطالا كثيرين، منهم جيفارا ومعظم الأبطال فى تاريخنا، سقطوا نتيجة خيانة داخلية، وتساءلت: ألم يعثر الأمريكان بعد على خائن فى خيمة بن لادن؟ أم أن المتمرد الذى تربى فى حجر المخابرات المركزية تعلم ألا يثق فى «بدران»، واتخذ من التخفى والتنقل الدائم أسلوبا لحياته وحصنا لحمايته؟، وتساءلت أيضا: هل يصلح مثل هذا النموذج للحياة أم أنه نموذج استثنائى يفكر فى الموت العاجل باعتباره السبيل الوحيد لحياة مؤجلة؟ وتذكرت أن جيفارا فشل كزوج وفشل كأب، وفشل كصديق أحيانا، واتسم بسلوك خشن يصل إلى حد الشك والفظاظة فى كثير من الأحيان، لكن حياته البطولية وموته الأسطورى صنعا فلترا لتنقية صورته التى وصلتنا، وهذا ما فشل فيه أنصار بن لادن، ربما يقولون إن «تشى» عاش ومات فى مناخ مناهض للإمبريالية ووجد تيارات تتبنى صورته كمناضل، فيما وقف بن لادن وحيدا ومنبوذا فى عالم يخضع لتصنيفات وتسميات العم سام.. عموما القصة طويلة، والأسئلة فيها عويصة، لكن اللافت فعلا أن ظاهرة بن لادن لم تدرس بعد دراسة موضوعية متحررة من التنميط الأمريكى لوصمة «الإرهابى»، وفى تقديرى المتواضع أن بن لادن مناضل أيديولوجى لن يسقط عنه أبدا شرف مواجهة الاستعمار والهيمنة، لكن أسلوبه يكشف عن دونكيشوتية عجزت عن استيعاب مفاتيح عالم جديد وتعاملت مع الحاضر بأساليب تجاوزها الزمن، والأخطر من ذلك كله أنه يركز على الموت أكثر مما يركز على الحياة، ولهذا قصة سأعود إليها إذا سنح لنا الوقت. [email protected]