يُحكى أن جماعة من علماء دمشق قرروا فيما بينهم أن يقصدوا حاكم المدينة وينتهروه لانتشار الظلم والاستبداد، فلما عرف غايتهم ودخلوا عليه إذا هو ممسك بسماعة الهاتف صارخًا فيمن يحدّثه، ولم يكن يهاتف أحدا أصلا: لا بد أن تعدموه على الفور! نظر الجمع إلى بعضهم البعض وارتجفوا، فلما أنهى مسرحيته الهزلية توجه إليهم قائلا: لماذا جئتم؟ قالوا: لنقدم لك آيات الشكر والعرفان. قال: قد فعلتم فانصرفوا. ثم ضحك ساخرا: شعب كهذا يستحق حاكما مثلى!! تُحيل كلمة «مستبد» فى الخطاب اليونانى إلى نمط مُحدد من علاقة السيّد بالمحيط المنزلى، أى بين إنسان حر وآخر حرمتهُ الطبيعة من هذه الحرية. أمّا فى اللغةِ العربية فيعنى الاستبداد: الانفراد. ومن ثم يقال: استبد الأمير بالسلطة؛ أى أخذها لنفسِهِ ولم يُشارك أحدا فيها. ووفقا لهذا المعنى اللغوى، يُقصد بالاستبداد السياسى «الانفرادُ بإدارةِ شؤون المُجتمع السياسىّ من قِبل حاكم أو حزبٍ دون بقيةِ المُواطنين، أو الاحتكارُ الفعّالُ لمصادر القوّةِ والسُلطةِ فى المُجتمع». وعلى مدار التاريخ الإنسانىّ وجَدَ الاستبدادُ من تكونُ مَهَمَّتهُ الرئيسية مُمثلة فى تبريرهِ وتسويغِهِ والدفاع عنه بُغية توفير غطاء شرعىٍّ له! فيما ينحو التفسيرُ الموضوعىُ نحْوَ كشفِ حقيقةِ الاستبداد وطبيعته، باعتباره ظاهرة من الظواهر الاجتماعيةِ التى تخْضَعُ لاعتباراتٍ زمانيةٍ ومكانيةٍ مُحددة. لذا تعددت التفاسير تبعًا لترددها ما بين الحدود القصْوى لكل من الفرد والمجتمع. ويأتى على رأسها ثلاثُ نظريات: أولاها «التفسيرُ النفسى» والذى يُعبَّرُ عنه بمصطلح «السادومازوخية Sadomasochism»؛ بمعنى أنّ ثمة علاقة وثيقة بين كل من الحاكم «السادى» والشعب «المازوخى»، ففيما يتلذذ الأول بإيقاع الألم بالآخرين يستمتع هؤلاء بإنزال الألم بهم. وبحسب هوبز، فإنّ رؤية الشر الذى يلحَقُ بالآخرين تسُّرُ الناظرين، لا لأنها شرٌ، بل لأنّها شَرٌ يلحَقُ بالآخرين»! ثانى هذه النظريات ما يسمى ب «التفسير النفس - اجتماعى»، حيث اتجه لابواسيه صوب المُستَبَدِّ بهم هذه المرة محاولاً فك شفرة خضوعهم الدائم وانصياعهم المُستفز لصالح المستبد متسائلاً: كيف أمْكنَ هذا العدد من الناس، من البلدان، من المدن، من الأمم، أن يتحملوا طاغية واحدا؟! ليصلَ إلى قناعةٍ تامةٍ بأنّ الشعب هو الذى يقهرُ نفسَهُ بنفسِهِ ويشُقُّ حَلقهُ بيده، هو الذى مَلكَ الخَيَار بين الرّق والعِتق فتركَ الخلاص وأخذ الغل! إنّها إذاً إرادةُ «العبودية المختارة»، التى تُرسخُهَا السُلطة فى نفوس المُستَبدِّ بهم تاركة منهم أشلاء، وأشباحًا تهيم بلا هُدى وتنكبُّ على وجوهها فى نار الاستبداد، فيعجزونَ حتى عن الرغبة - ولو مجرد الرغبة- فى الخلاص من عدوهم الذى هو للأسف الشديد «صَنْعَة أيديهم»! أخيرا تتركزُ النظريّة الثالثة حول «التفسير الاجتماعى»، حيث بحث دوفرجيه عن تفسير للظاهرة ضمن ما سماه «البناءُ الاجتماعى»، أى فى بنيةِ المجتمع ذاته والتى تختلفُ الأنظمة الديكتاتوريّة وفقا لها. ومن ثم، فالعامِلُ الأساسىُّ لظهور الأنظمةِ المُستبدة إنما يتمثلُ فى تطوُّر مُختلفِ أشكال ونماذج البُنيان أو التركيب الاقتصادىّ-الاجتماعىّ للعالم. وبحسبه، تنْشأ الديكتاتوريّة نتيجة عوامِلَ تتفاعلُ فيما بينها وتضْربُ بجذورهَا فى نسيج البناءِ الاجتماعىّ، بالإضافةِ إلى ضرورةِ توافر شرط آخر وهو «أنْ تكونَ مشروعيّة الحكم فى خطر»، أى أنْ تُصْبحَ الأصولُ الأساسيّة والمبادئ الأوليّة التى تسْتمِدُ السُلطة منها سُلطاتها محلَ نقدٍ واتهام باللاشرعيّة ومُطالبة بإلغائِها أو استبدالها. فى ضوء الاقترابات السابقة تبقى التساؤلات قائمة: هل فقدنا المناعة ضد الاستبداد لأننا نستعذب آلام حُكامنا؟ أم لأننا نفضِّلُ «العبودية المختارة» على «الموت بكرامة»؟ أم لأنّ بنية مجتمعاتنا العربية، الدينية والسياسية والثقافية، تُساهِمُ فى ظهور الاستبداد واستفحاله؟ أم لكل هذه الأسباب مجتمعة؟.. تلك قضية أخرى! [email protected]