على عكس ما كان يتوقعه الجميع، وما كانت توحى به كل الدلائل، ومن بينها تصريحات أدلى بها أقطاب فلسطينيون قالوا إن الموعد المعلن لاجتماع مؤتمر الحوار الفلسطينى ليس نهائياً، وتسريبات أكدت أنه سينتقل إلى الدوحة لكى يعقد بوساطة قطرية.. فقد انعقد المؤتمر فى موعده ومكانه أمس الأول الخميس، بالقاهرة، وانتهى بالاتفاق على تشكيل خمس لجان تبحث قضايا تأليف حكومة وحدة وطنية، وترتيبات وموعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية على أساس مهنى وليس فصائلياً، وإجراءات المصالحة على الأرض، والهيكل التنظيمى لمنظمة التحرير.. وهى النتيجة نفسها التى كان يفترض أن ينتهى إليها المؤتمر ذاته، لو أنه انعقد فى موعده السابق فى 17 نوفمبر الماضى! فما الذى حدث خلال هذه الأيام المائة التى انقضت بين الموعد السابق الذى ألغى بعد أن اعتذرت حركة حماس وثلاثة من الفصائل الأخرى عن عدم حضوره فى آخر لحظة وبين الموعد الجديد، ليعدل الممانعون من هذا الطرف أو ذاك، عن موقفهم؟.. وما الذى كان يمكن أن يحدث لو أن هذه الأيام المائة لم تضع عبثاً؟.. أبرز عناوين الأحداث التى وقعت خلال هذه الأيام المائة تشمل على الصعيد الأمريكى: «تولى الرئيس أوباما سلطته الدستورية». وعلى الصعيد الإسرائيلى: «فوز اليمين الصهيونى بالأغلبية فى انتخابات الكنيست.. واتجاهه لتشكيل حكومة من غلاة اليمين». وعلى الصعيد الفلسطينى: «العدوان الإسرائيلى على غزة.. الذى انتهى بتدمير معظم بنيتها التحتية».. واشتد على مشارفه وأثنائه القصف الإعلامى والسياسى العنيف بين حركتى حماس وفتح، واشتعلت خلاله حرب القمم العربية بين قمة الدوحة وقمة الكويت وقمة الرياض. وارتفعت خلاله شعارات التقسيم على كل صعيد: تقسيم العالم العربى إلى معسكرين: أحدهما للممانعة والمقاومة، والثانى للانبطاح والمفاوضة، وتقسيم فلسطين إلى دولتين تتمتعان بالاحتلال الإسرائيلى، إحداهما دولة غزة الممانعة، والثانية هى دولة الضفة المفاوضة، وتقسيم منظمة التحرير الفلسطينية إلى منظمتين: واحدة لتحريرها من احتلال فتح، والثانية لتحريرها من احتلال حماس، أما تحريرها من الاحتلال الإسرائيلى، فالبركة فى أخونا فى الله باراك حسين أوباما، وأخونا فى الله برضه أحمدى نجاد!. وحين تحدد الموعد السابق لانعقاد مؤتمر الحوار الفلسطينى، لم يكن غائباً عن أحد أن الظروف المحيطة بالقضية الفلسطينية تتغير، فهناك رئيس أمريكى جديد، يسعى لتصفية التركة الثقيلة التى ورثها عن سلفه، أو على الأقل لجنى ثمار أو تقليل خسائر الحماقات التى ارتكبها سلفه.. وكل الدلائل كانت تدل على أن اليمين الإسرائيلى المتشدد، الذى لا تعنيه «فتح» أو «حماس» هو الذى سوف يفوز فى الانتخابات، ليتعامل معهما على قدم المساواة، من دون تفرقة بين «ممانع» و«مفاوض»، وأن الفلسطينيين لا يستطيعون أن يتعاملوا مع هذه الظروف المتغيرة، وهم فى وضع الحرب الأهلية، التى لم تسفر فحسب عن استباحة الدم الفلسطينى، بل أسفرت عن تحول الخلاف فى الاجتهاد السياسى إلى تقسيم للأرض، أما الشىء الوحيد الذى لم تسفر عنه، فهو تحرير شبر واحد من فلسطين، فلا دولة الممانعة حررت أرضاً، ولا هى فتحت معبراً، ولا دولة المفاوضة أزالت حاجزاً، أو منعت اجتياحاً! كان الحل الوحيد أمام الفلسطينيين ولا يزال، هو أن يتوحدوا فى حركة تحرير وطنية واحدة، تتفق على الحد الأدنى مما يمكن لها أن تحققه فى هذه المرحلة طبقاً لتقييم واقعى لقوتها وقوة حلفائها، ومدى المساعدات الحقيقية التى يمكن أن يقدموها لها، وللظروف الدولية المحيطة بها، وتعمل على التوظيف الأمثل لما لديها من أوراق القوة، وتستخدمها بشكل متناغم، ومتفق عليه، وفى التوقيت الأكثر ملاءمة وتأثيراً وأقل ضرراً، فلا تضع المقاومة فى مواجهة المفاوضة أو العكس، وتنطلق من تصور واضح، بأن قضية تحرير فلسطين هى قضية «وطنية» وليست قضية «حزبية»، وأن الهدف الآن، هو إقامة الدولة، وليس من يحكمها! ولأن الطريق الذى يبلغ طوله ألف ميل يبدأ بخطوة واحدة، فإن انعقاد مؤتمر الحوار الفلسطينى، والتفاهمات التى سبقته بين فتح وحماس، هو خطوة تستحق تهنئة وتقدير كل الذين شاركوا فيه، لأنهم منحونا فرصة لنفرح ولو ليوم واحد، وكل الذين عملوا بصبر ورصانة وتقدير للمسؤولية على إنجاحه، وعلى رأسهم الفريق المصرى بقيادة الوزير عمر سليمان، كما تستحق كذلك تحية كل الذين امتنعوا هذه المرة عن إفشالها. ومع التسليم بأن الملفات التى سيكون على اللجان الخمس أن تبحثها، معقدة وشائكة، إلا أن انعقاد المؤتمر فى حد ذاته يكشف عن الأصل فى الأمور، وهو الإرادة الفلسطينية المستقلة، وهو التوافق العربى الذى يبدو فى الأفق أن هناك خطوات لتحقيقه قبل انعقاد القمة العربية العادية فى نهاية مارس المقبل. ويا أسيادنا الذين فى المصالحة الفلسطينية: كتّر خيركم لأنكم منحتمونا يوماً واحداً من الفرح فى زمان ليس كذلك.