يمتلك الأستاذ مأمون فندى أسلوباً فى الكتابة «زى العسل»، يجعلك حريصاً على انتظاره ومتابعته من الأربعاء إلى الأربعاء، غير أنه يمتلك أيضاً رؤى «زى السم» يزاوج بينها وبين «عسله» بأسلوب فريد أخاذ يجعلك حائراً أمامه: هل تقرأ وتستلذ بالعسل، أم تنجو بعقلك من سمه الزعاف؟ بالنسبة لى فقد دربت نفسى جيداً على الفصل بين أحلى ما فى الرجل «المقيم هناك» وأسوأ ما فيه، وهكذا أصبحت من قرائه الدائمين وليس من مريديه المنومين مغناطيسياً، وأحسب أننى لست الوحيد الذى حقق هذه المعادلة الصعبة. لكننى أسجل هنا فشلى فى فصل السم عن العسل عند قراءتى لمقاله الأخير «رررجب» الذى نشر يوم الأربعاء الموافق 4 فبراير على الصفحة الأخيرة من «المصرى اليوم»، ويبدو أن مأمون أفندى «زوّد» عيار السم حبتين على عيار العسل فأربكنى وأفقدنى موهبة الفصل بين «محاسنه» مما اضطرنى إلى إعادة القراءة مرة بعد مرة طمعاً فى استعادة موهبتى، لكن موهبة الرجل كانت أكبر وأعظم فهزمنى بلمس الأكتاف. باختصار - أتمنى ألا يكون مخلاً - ضرب مأمون فندى «إسفين محترم» فى العلاقة الجميلة التى نشأت بين القيادة التركية والعرب أثناء حرب الصهاينة البربرية على غزة. رأى الأستاذ مأمون أن رجب طيب أردوجان كان تليفزيونياً استعراضياً، وهو يهاجم إسرائيل فى العلن بينما يبرم معها اتفاقيات ومعاهدات فى السر أسفرت عن صفقة طائرات إسرائيلية دون طيار إلى تركيا. حتى الموقف الشجاع الذى اتخذه الزعيم التركى فى دافوس وعوض به شعوب العالم العربى والإسلامى عن مواقف زعمائهم المائعة والمتخاذلة دمره مأمون فندى حين نقل ما دار فى المحادثة الهاتفية بين رئيس الكيان الصهيونى شيمون بيريز ورجب طيب أردوجان، التى قال فيها الأخير بما يشبه الاعتذار - على حد وصف مأمون فندى - إنه لم يكن غاضباً من بيريز وإسرائيل، بل من مدير الندوة الذى «لم يتصرف معه بأدب، ولم يعطه حقه فى التعبير». وباعتبارى أحد المهللين لموقف الشعب التركى كله الذى كان الدافع الأول والأساسى لموقف الرئيس عبدالله جول، ورئيس الوزراء رجب طيب أردوجان أقول: لن أردد مطلع أغنية هيفاء وهبى «رجب حوش صاحبك (بيريز) عنى»، بل سأقول إننى فى غاية الدهشة من التقييم العاطفى للمسألة، الذى انتهجه مأمون فندى وهو الذى يعيش فى بلاد لا تعترف بهذا الأسلوب فى تقييم جميع العلاقات بما فيها علاقة الأب بابنه، وكنت سألتمس العذر لو جرى هذا التقييم على قلم يقيم هنا فى منطقتنا «العاطفية». إن موقف «رجب» الثورى وهو الذى يقيم علاقة دبلوماسية كاملة، وعلاقة اقتصادية مميزة مع إسرائيل أشرف مليون مرة من موقف أى رئيس دولة لا يقيم معها مثل هذه العلاقة، لأن كلامه فى هذه الحالة سيكون «طق حنك» ومتوقعاً، كما أنه أفضل بالتأكيد من مواقف زعماء عرب يقيمون علاقة مع إسرائيل، ولم «يهوشوا» حتى بقطع العلاقة معها. وبعدين سيبك من كل ده وخلينى أسألك سؤال «من غير سم»: تفتكر أخونا رجب اتخذ هذا الموقف طمعاً فى زعامة المنطقة العربية بعد أن أصبحت دون زعيم؟ مستحيل طبعاً لأن الزعامة فى هذه الحالة ستقف عليه بالخسارة، بعد أن أصبح العرب أرخص سلعة موجودة فى السوق. «طيب» تفتكر الراجل طمعان فى زعامة العالم الإسلامى؟ حتى هذه ستقف عليه بالخسارة أيضاً، خاصة أن تركيا دولة علمانية تحلم بالنوم فى أحضان أوروبا. فكيف نفسر إذن ما فعله ذلك الرجل؟ رجب طيب أردوجان رجل سياسة ماهر يعرف قواعد السياسة التى تقول لك اتخذ من المواقف الإنسانية والاجتماعية والدينية ما شئت ولكن لا تتعد الخط الذى يضر بمصالح وطنك. هذا ما فعله رئيس وزراء تركيا بالتمام والكمال: أرضى العرب والمسلمين والأتراك، ولم يغضب إسرائيل وأمريكا وأوروبا. حافظ الرجل على «شعرة معاوية» أول سياسى داهية فى تاريخ الإسلام، لكن بعضنا أو أحدنا لم يقرأ الموقف جيداً فأهال التراب على الحسنة الوحيدة - حسب ظنى - فى حرب إسرائيل على غزة. لم يكن الموقف التركى خلال الأزمة كلوحة سريالية يفسرها كل من رآها بتفسير مختلف خاص به، بل كان النغمة الصحيحة الوحيدة فى الأزمة، ولأننا لم نعد نسمع فى زماننا الردىء غير النشاز، تشابه الأمر علينا. مع ذلك سأظل أنتظر مقال مأمون فندى «كل أربعاء»، لأننى أحب العسل ولا أستطيع الإقلاع عنه حتى ولو كان مخلوطاً ب «العسل المر». [email protected]