يخطئ من يتصور أن ما يحدث فى غزة هو ضد قيادات حماس وحدها، بل ضد الفلسطينيين جميعًا، مقاومين ومدنيين، شيوخًا، رجالاً، شبابًا، نساءً، أطفالاً، ضد الحق الطبيعى لأى إنسان فى الحياة. الكل محاصر بين معابر مغلقة وجهنم إسرائيلية، عرضها أرض وسماء غزة، الكل فى حاجة لكسرة خبز لكوب لبن لماء نظيف لدواء لكهرباء لغاز، لنخوة حقيقية وضمائر حية تنقذ من تبقى من موت محقق، يتربص بالجميع فى كل لحظة، وفى كل الأماكن: تحت الأرض وفوقها، فى الأماكن المفتوحة أو المأهولة بالسكان، فى الأزقة والشوارع والمبانى الحكومية، فى بيوت العباد أو فى بيوت اللّه، وحتى المدارس الخاضعة للحماية الدولية ووكالة غوث اللاجئين (الأونروا) لم تكن الملاذ الآمن لمن احتمى بجدرانها من بطش الآلة العسكرية الإسرائيلية، مما أدى لسقوط العشرات بين قتيل وجريح تحت الأنقاض. ما يحدث هذه الأيام فى قطاع غزة أكد للعالم أن إسرائيل تفهم لغة الدم أكثر من لغة الحوار، وتسعى لتبرير الانتقام أكثر من سعيها للسلام، ومستعدة لإهدار ما تبقى لها من رصيد سمعتها فى العالم، وغير مستعدة مطلقًا للتنازل عن أى شىء لصالح العرب، وهو ما أخرج بعض الأنظمة الرسمية عن صمتها ووضعها أمام مسؤولياتها تجاه أنفسها وشعوبها وتجاه أخلاقياتها وتاريخها. أما كل من رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء التركى وهوجو شافيز، رئيس فنزويلا فقد أصرا على ترك مدرجات المتفرجين من الحكام، إلى لعب دور رئيسى فى استاد السياسيين المحترمين والواعين بعواقب الأمور، ولم يتردد رئيس الوزراء التركى فى وضع النقاط على الحروف، فى اللقاء الذى أجرته معه قناة الجزيرة وأعلن فيه، دون مواربة، أن إسرائيل تتحمل وحدها مسؤولية ما جرى، لكونها البادئة بالعدوان، وخرقها المتعمد للتهدئة مع حماس، وإصرارها على محاصرة الفلسطينيين وإذلالهم وتجويعهم، وإغلاق المعابر فى وجوههم لتقييد حركتهم من وإلى قطاع غزة، ورفضها عرضًا تركيًا للوساطة مع حماس قبيل مجزرة غزة، وأكد أردوغان كذلك أن زيارة أولمرت إلى تركيا للتباحث فى عملية السلام الشرق أوسطية ثم قيام إسرائيل بعد ذلك بتوجيه هذه الضربة القاسية للفلسطينيين هما فى الحقيقة امتهان لتركيا وعدم احترام لمكانتها ودورها الإقليمى والعالمى، ويمثل الموقف التركى الصارم صفعة لكل من يميعون المواقف، ويكتفون إزاء جرائم إسرائيل بالشجب والاستنكار والإدانة والوعظ والنصح والإرشاد وكلها أمور تدفع الإسرائيليين للمزيد من الجرأة، والتمدد أكثر وأكثر فى طريق تقليص كل أشكال المقاومة، ورغم المصالح المشتركة والروابط المتينة بين تركيا وإسرائيل، رأى أردوغان أن أمانة المواقف والمسؤولية الأخلاقية ترغمه على ألا يحمل حركة حماس مسؤولية ما جرى، وتساءل: ماذا بوسع حماس أن تفعل مع الاحتلال والحصار وتقييد حركة أكثر من مليون ونصف المليون مواطن يتكدسون فى شريط ساحلى ضيق اسمه قطاع غزة؟ وأتساءل بدورى: ماذا كان ينتظر من حماس وبقية الفصائل الفلسطينية؟ هل كان المطلوب منها أن تضع صور أولمرت وباراك وليفنى احتفاء بإذلالهم وحصارهم وحرمان قطاع غزة من كل مقومات الحياة؟ هل كان منتظرًا من حماس أن تستبدل بصواريخ القسام قذائف من الحلوى وباقات من الورود لتهنئة المستوطنين باعتداءاتهم المستمرة على الفلسطينيين وبناء المستوطنات وتهويد القدس وهدم المسجد الأقصى؟ أليست إسرائيل دولة محتلة يفرض الواجب الوطنى مقاومتها، أم أنها دولة جوار تعرف حقوق الجار؟ بقدر احترامى لموقف أردوغان المشرف، بقدر ما أشعر بالإحباط لأنه لم يصدر عن أى من الأنظمة العربية موقف يلفت النظر ويستحق الاهتمام، وحتى المبادرة المصرية الأخيرة، التى جاءت بمباركة ساركوزى، سوت بين الجلاد والضحية عندما طالبت بالوقف الفورى لإطلاق النار بين الطرفين الفلسطينى والإسرائيلى وجعلت الصواريخ المشروعة فى نفس وزن القوة الإسرائيلية الهائلة، وأتفق مع ما ذهب إليه الأستاذ المحترم مجدى الجلاد فى عموده «صباح الخير» يوم الثلاثاء الماضى، أن رئيس الوزراء التركى قدم للعرب درسًا أردوغانيًا فى صناعة المواقف المنسجمة مع نبض شعبه الذى انتخبه انتخابًا حرًا. وغير بعيد عن الدرس الأردوغانى، يفجر شافيز، رئيس فنزويلا القنبلة الثانية، ويعطى للعرب درسًا آخر، لكنه شافيزى هذه المرة، عندما يطرد السفير الإسرائيلى وموظفى السفارة الإسرائيلية، احتجاجًا على الممارسات الإسرائيلية البغيضة، التى وصفها وزير خارجيته بأنها هولوكوست جديدة لا تختلف عن هولوكوست النازيين فى الحرب العالمية الثانية. بصراحة منتهى الإنسانية والحزم من رجل لا ينطق العربية ولا يدين بالإسلام ولا تمت جذوره للعرب بصلة، وكأنه أراد أن يقول ببساطة إن الحوار مع صناع الإرهاب غير مقبول، وإن السكوت فى مواجهة الجرائم والانتهاكات الإسرائيلية يعد جرمًا أكبر فى حق شعب لا حول له ولا قوة، والشىء المحير، هل يمكن للعرب أن يستوعبوا مثل هذه الدروس؟ هل يمكن أن يتخذوا مواقف ضد إسرائيل أشد حسمًا من مواقفهم ضد بعضهم البعض؟ هل يمكن أن تستفز مثل هذه الدروس الحكومة المصرية وتقوم فى هذا الظرف العصيب بوقف استشكالها المقدم للطعن فى الحكم القاضى بحتمية الوقف الفورى لتصدير الغاز إلى إسرائيل بأسعار غير قابلة للمنافسة؟ حسابات الاستفادة من إسرائيل خاطئة، والرهان على تدمير المقاومة لن يكون فى صالحنا حاضرًا أو مستقبلاً، والحرص على من تعاطفوا مع قضايانا أهم ألف مرة من خفض الرؤوس وتسول الأمن من عدو قادم إلينا إن عاجلاً أو آجلاً. [email protected]