هل صحيح أن صعيد مصر يتغير؟ هل صحيح أن الحكومة أخيرًا وضعته على خارطة التنمية؟ هل يمكن أن تحمل هذه البقعة – وهى من أجمل ما منحه الله لنا فى هذا الوطن - أملا، بدلاً من أن تكون معقلا للفقر واليأس؟ كانت زيارتى لأسيوط.. قررت ألا أكتب عن بعد ولكن عن قرب.. أن تقرأ كل الكتب شىء.. وأن ترى الواقع شىء آخر. 375 كم جنوبالقاهرة.. محافظة قارية تحدها جبال من الشرق والغرب، ولذا قيل إن طباع أهلها أيضا قارية مثل مناخها: أحيانا قاسية جداً وأحياناً أخرى حانية جداً. الفراعنة سموها «سيوت» حارس الجنوب، وهى كذلك، عاصمة الصعيد.. صعيد مصر، الذى يضم 66% من فقرائها... أسيوط وحدها ربما كانت أفقر محافظاته (معدل الفقر يصل إلى 60.5 %، وتضم 20 % من أفقر ألف قرية فى مصر) ومع الفقر تراكمت الأمية والبطالة (حوالى 9%) والتسرب من التعليم، إضافة إلى تاريخها القريب الذى امتزج بالإرهاب.. (جنازير الجماعات الإسلامية، التى لا ينساها أهل أسيوط فى التسعينيات.. وأفزعتهم كثيراً). سنوات من الإهمال... ربما للبعد، وربما لتوجيه الموارد المحدودة للعاصمة القاهرة، التى لا تتحسن أحوالها، تراكمت معها مصائب الصعيد الذى يحوى أكثر من ثلث أهل مصر... أى مهمة تنمية يجب أن نعترف أنها شديدة الصعوبة لا تتم بجرة قلم. فمن أين البدء: من الخدمات، أم البنية الأساسية، أم الصرف الصحى، أم التعليم، أم الاستثمار، أم الأمن... وأظن أن الأمن كان البداية.. فمع الأمن يمكن للتنمية أن تعيش.. ومحافظ أسيوط الحالى اللواء نبيل العزبى (منذ عام 2006)، هو أصلا رجل أمن كان مديرا لأمن أسيوط فى السابق قبل أن ينتقل إلى أمن القاهرة، ثم إلى محافظة أسيوط. كثير من أهل أسيوط يرون أنه حقق الكثير وأعاد البسمة إلى وجه المدينة.. وإن كانت هناك مطالبات بالمزيد فى المراكز والقرى. العاصمة استعادت جمالها، كورنيش النيل، الذى يفوق كورنيش نيل القاهرة بمراحل.. لن تلمح فى شوارع أسيوط مشاهد القمامة المعتادة فى مدن مصر، اللمحات الجمالية لا يمكن أن تخطئها عينك.. شوارع وميادين منسقة تعيد الوجه الحضارى لمدن الصعيد... تلك هى العاصمة.. لكن عيون الفقر لا تزال تطل عليك على بعد كليومترات قليلة.. ربما ليس فى العاصمة ولكن على مقربة منها فى قرى كثيرة...(200 قرية) تعانى من غياب كامل للبنية الأساسية والخدمات. ماذا هم فاعلون... الخطة تقول إن 100 قرية (أى 50% من القرى الفقيرة) فى برنامج التطوير.. تم إنجاز جميع مشروعات الصرف الصحى فى مدينة أسيوط، وامتدادها إلى المراكز ينتهى خلال عام ونصف (على عهدة المنفذ شركة المقاولون العرب).. الكهرباء تقريبا بلا مشاكل، والمياه جار أيضا علاجها، ولايزال هناك الكثير فى التعليم والصحة وفرص العمل. العمل مستمر.. لكنه يحتاج لضخ أموال عاجل ومستمر.. يحتاج إلى استثمارات تشغل شباب الصعيد وأهله.. كى لا يكون الصعيد طاردا لأبنائه إما إلى القاهرة أو الخليج. فالعمل على الأرض يحتاج لقوى عاملة كثيرة. تجميل العاصمة لا يكفى.. أن يستمع الناس إلى الموسيقى فى الشوارع فكر رائع يحارب التطرف بالفن والثقافة.. لكن على نفس القدر من الأهمية وربما يفوقه، أن يجد الناس مأوى يقيهم برد الشتاء القارص، ومياهاً صالحة للشرب، ومبادئ حياة آدمية. فارق كبير بين أطفال مدارس التعليم النشط الابتدائية، التى نجحت بشكل رائع فى العاصمة، وبين أطفال مدرسة قرية المطيعة الإعدادية الذين يكادون يتعلمون مع الماشية كل يوم.. فى مدرسة بلا أسوار.. قتل الفقر ممكن، لكنه يحتاج إلى خطة وأولويات، كى لا يكون تذكر الصعيد هو مجرد صحوة نغفو بعدها فى سبات عميق. شىء ما يحدث فى أسيوط.. بعض الأمل أرجو أن يعيش. [email protected]