أرأيتَ يا «فينسينت» كمْ يحبُّكَ المصريون؟ حين فكرتُ فى كتابة سلسلة مقالات عنه، كدتُ أتراجع لمّا سألتُ شابا «جامعيا»: «تعرف فان جوخ؟» فقال: «ايوا ده مكان، بس مش عارف فى أى بلد!» ثم تراجعتُ عن التراجع وقلتُ لنفسى: أولا ليس كلُّ الناس هذا الشاب. ثم بالعكس، فليكنْ هذا الشابُ وأضرابُه هدفَ تلك المقالات التى تذكى فينا حبَّ الجمال والفن، علّ المصريَّ الراهنَ يعود كسابق عهده، حتى نهاية الستينيات الماضية، متذوّقا الجمالَ، صانعا له. لديّ إيمانٌ بأننا لن نخرج من عثرتنا إلا بإعلاء قيمة الفن من جديد. فمتذوّقُ الجمال يكره القبحَ، ومن ثم يعرفُ حقَّه وواجبَه. لا يَظلم ولا يُظلَم. لا شعبَ مُحبًّا الجمال والفن يظلمُه حاكمٌ. لم يقمِ الفرنسيون بسلسلة ثوراتهم، حتى نالوا حريتهم وديمقراطيتهم، إلا فى ظلّ انتعاش حركات الفن التشكيلى فى باريس، وكذا بتواصلهم الحميم مع ازدهار الموسيقى فى ألمانيا. لأن الجمالَ البصريَّ والجمالَ السمعيَّ والجمال السلوكى والجمالَ الفكرىَّ، وهلم جرا من ألوان الجمال، شىءٌ واحد. بعد نشر مقالى عن فان جوخ كتب أحدهم تعليقًا يقول: «مشكلتنا الرغيف، وليس فان جوخ!» ولم ينتبه أن إمتاعَ الروح، لا يقلُّ ضرورةً عن إشباع الجسد. بل هو شرطٌ لنعرفَ حقَّنا عند حاكمنا الذى منع عنّا هذا الرغيف، ومن ثم الحصول عليه. وفى مقابل هذا المُعلّق «الرَّغيفى» وصلتنى عديدُ رسائلَ وتعليقات مُحبّة للجميل الحزين «فينسينت فان جوخ»، الذى منحنا البهجةَ وقد حُرم منها. تلك هدايا القراء لنا. أجمل تلك الهدايا أغنية «Vincent» التى كتبها وغناها دون ماكلين متأثرا بلوحات جوخ. أرسلها لى الفنان اللبناني-المصرى مأمون المليجى تحيةً لمقالي، وأنا بدورى أهديه ترجمتى لها الآن. «فى ليلة تضيئُها النجوم/ لوّنْ فرشاتك بالأزرق والرمادى / وراقبْ نهارًا صيفيًّا/ بعيون ترى عتمةَ روحى ./ ارسمْ الأشجارَ والنرجسَ البريَّ/ بظلال التلال/ والتقطْ النسيمَ وصقيعَ الشتاء/ من أرض يكسوها الجليد. / الآن أدركُ/ ما الذى حاولتَ قولَه لى/ كم صارعتَ عقلك/ وكم حاولتَ تحرير الناس/ لكنهم لم ينصتوا/ لأنهم لم يعرفوا كيف ينصتون/ ربما ينصتون الآن./ فى ليلة تضيئُها النجوم/ زهورٌ تشتعلُ باللهب/ وغيماتٌ تدورُ فى ضباب أرجوانيّ/ تنعكس فى عينى فينسينت الخزفية الزرقاء./ الألوانُ تغيّرُ درجاتها/ حقولُ الصبح وقمحها الكهرمانيّ/ والوجوه العاصفة بالألم/ ستغدو ناعمةً بريشتك المُحبة. / الآن أفهمُ/ ما الذى وددتَ قولَه لى/ كم عانيتَ وحاولت تحريرهم/ لكنهم لم ينصتوا/ لم يعرفوا كيف/ لأنهم لم يقدروا أن يحبوك/ لكن حبَّك لهم كان حقيقيا/ وحينما اختفى الأملُ من المشهد/ فى تلك الليلة المضيئة بالنجوم/ أنهيتَ حياتك كما يفعل المحبون عادة/ كان عليّ أن أفهم يا فينسينت/ أن هذا العالمَ لم يرُق لجميل مثلك. / ليلة تضيئُها النجوم/ تُصوّرُ المشنوقين فى القاعات الخالية/ جماجمَ فوق حوائطَ مجهولة/ بعيون ترى العالم ولا تنسى/ مثل الغريب الذى التقيتَه/ الرجل البالى فى الملابس البالية/ مثل شوكة فضية فى زهرة ملعونة/ ترقدُ مكسورةً فى الثلج الطاهر./ والآن/ أعتقدُ أننى أفهم ما تحاول قوله لى/ أنك صارعت من أجل عقلك/ وحاولت تحريرهم/ هم لم ينصتوا/ ومازالوا لا ينصتون/ وربما لن يفعلوا أبدا. [email protected]