تناولنا فى مقالات سابقة التحديات الرئيسية على طريق النهضة ثم أوضحنا مدى الحاجة إلى استراتيجية وطنية شاملة لتحقيق هذه النهضة. ونلاحظ فى هذا الصدد أن المجتمع المصرى يعانى رغم ما بذل من جهود على مدى نصف قرن من فجوات واضحة تحول بين هذا المجتمع وبين التقدم نحو العصر، وهذه الفجوات هى الفجوة بين المرأة والرجل، الفجوة بين الصعيد والدلتا، الفجوة بين الريف والحضر، الفجوة بين المناطق العشوائية والحضرية فى المدينة الواحدة، والفجوة بين الغنى والفقير، وكلها فجوات سببت الكثير من التناقضات والتشابكات فى المجتمع بصورة غير مسبوقة. ومرجع ذلك كله هو عدم تحقيق إنجاز حقيقى ملموس فى مجال التنمية البشرية، فدليل التنمية البشرية يأتى فى مقدمة عوامل نهضة الأمم وبناء قوتها وترسيخ منعتها إلى جانب عوامل أخرى حاكمة مثل الموقع الجغرافى/السياسى والحجم الديمغرافى النسبى ومدى توافر الموارد الطبيعية وإدارتها برشد ومستوى القدرات العلمية والتكنولوجية المتوفرة ومستوى الحفاظ على البيئة وأخيراً وليس آخراً التوازن الاجتماعى والاستقرار السياسى. ويقدر معدل التنمية البشرية كمحصلة لعوامل عديدة تتلخص فى العمر المتوقع عند الميلاد ومعدل الإلمام بالقراءة والكتابة ونسبة القيد بالتعليم الأساسى والثانوى والجامعى معاً، ومتوسط نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى مقدراً بالقوة الشرائية المعادلة للدولار الأمريكى. والغرض من التنمية البشرية هو تهيئة البشر للقدرة على الابتكار والتطوير واتخاذ القرار والتشغيل والصيانة، وبدون تهيئة المجتمعات لتحقيق هذه المهام الأربع الأساسية ليصبح هدف التنمية نفسه فى مهب الريح. وفى هذا الصدد، يجب أن يستقر فى أذهان الجميع مهما اختلفت المشارب وتنوعت التوجهات النقاط التالية: 1 التنمية البشرية هى مسؤولية وطنية لا يكتب لها الارتقاء والاستمرار إلا بالارتكاز على الموارد والقدرات المحلية. 2 النمو الاقتصادى هو شرط ضرورى لتحقيق التنمية البشرية ولكنه وحده ليس كافياً. 3 التنمية البشرية معنية فى الأساس بتوسيع اختيارات الناس من خلال جعلهم فى مركز عملية التنمية بمعناها الأشمل. وبمراجعة مراحل النمو فى مصر على مدى الخمسين عاماً الماضية يتضح لنا ما يلى: 1 افتقد هذا النمو القدرة الذاتية للتواصل والاستمرار وغالباً ما خضع لمؤثرات وعوامل خارجية ليست تحت السيطرة الوطنية، الأمر الذى فرض تباطوءاً أو تعثراً فى كثير من المراحل. 2 كان هذا النمو غالباً من النوع الذى لا يولد كثيراً من فرص العمل، كما تدنت إلى حد كبير معدلات استخدام القيمة المضافة خاصة فى المنتج الزراعى. 3 التهم النمو السكانى المتزايد «من 20 مليوناً عام 1952 إلى 80 مليوناً عام 2008 أى بزيادة تصل إلى 400٪»، الشريحة الكبرى من إجمالى النمو الاقتصادى فى الوقت الذى عجز فيه النمو الاقتصادى عن إبطاء الزيادة السكانية بالدرجة الكافية. 4 يعتبر التفاوت فى التوزيع الجغرافى للاستثمارات أحد العوامل المهمة فى نشوء تفاوتات فى متوسط نصيب الفرد من الدخل بين المحافظات بل فى داخل المحافظة الواحدة أو بين مركز وآخر أو بين قرية وأخرى فى نفس المركز. 5 أهم معوقات الاستخدام الأمثل للموارد البشرية فى مصر هو سوء تخطيط التعليم فى جميع مراحله ونقص الموارد الموجهة للتعليم والتدريب وعدم اتساق التعليم مع الاحتياجات المتغيرة دوماً فى سوق العمل. ونتساءل أين المفر وما هو العلاج الناجع لهذا المأزق الحضارى الحقيقى، ويكن أن نلخص الإجابة فيما يلى: 1 طريق التقدم الوحيد المتاح أمام دولة كثيفة السكان مثل مصر يتمثل فى تنمية مواردها البشرية ووضع الإنسان فى مركز عملية التنمية. 2 نمو الدخل والتوسع فى فرص العمل من خلال اقتصاد متنام هما شرطان أساسيان لتحقيق التنمية البشرية. 3 لا تتحقق تنمية مصرية شاملة دون تنمية القرية المصرية ولا تتحقق تنمية حقيقية للقرية المصرية دون تنمية قدرات الناس فى الريف على الكسب والادخار والارتقاء بمستوى المعيشة والبيئة المحيطة. 4 تطوير واختيار أساليب الإنتاج فى الريف، يجب أن يؤدى إلى زيادة فرص العمل، وما لم تحسم مشكلة البطالة فى ريف مصر صعيداً ودلتا، فمسار التنمية نفسه معرض للأخطار. 5 ضرورة الحفاظ على الأراضى الزراعية كمورد رئيسى للتنمية فى الريف، والحرص كل الحرص على عدم تسييس هذا الموضوع، تحت وطأة التزاحم فى الدلتا والوادى، فالخروج المنظم إلى الصحراء هو البديل الأمثل لعلاج مشاكل الريف الإسكانية والمعيشية بشكل عام. 6 استمرار الارتقاء بالإنتاجية الفدانية من خلال نشر وتعميم تكنولوجيا زراعية ملائمة تستند إلى بناء مؤسسى فعال للبحوث والإرشاد وهياكل متطورة للائتمان والتسويق. 7 التوسع فى التصنيع الزراعى والتحويلى من خلال الاستثمار المتزايد والتدريب والتركيز على القيمة المضافة للمنتج الزراعى. 8 مراجعة حقيقية وإصلاح السلبيات الملاحظة فى الهياكل والتنظيمات التعاونية والائتمانية والتسويقية. 9 الحذر كل الحذر من موجات ترييف المدن فلابد من مراقبة الآثار السلبية لهجرة سكان الريف إلى المدينة، وما ينتج عنها من بطالة وإخلال بالأمن وتدهور للبيئة والعشوائية فى الإسكان والسلوك العام الذى انحدر إلى درجة مخيفة. 10 ترسيخ مبدأ سيادة القانون وضوابط احترام الصالح العام بما يعمق ويدعم مبدأ أنه لابناء بلا ترخيص ولا ترخيص بلا تخطيط. ولابد من أن تصان حرمة الطريق وحرمة الهواء، وحرمة النهر وحرمة المال العام ولابد أن تستند هذه الحرمات إلى وعى عام نابه ومستنير لا يتأتى إلا من خلال الارتقاء بمستوى التنمية البشرية بجميع عناصرها. [email protected]