عطشان يا صبايا.. عطشان يا مصريين عطشان والنيل فى بلادكم متعكر.. مليان طين ولا نهر الرون يروينى ولا مية نهر السين ودموع العين ما بتروى نار القلب الحزين شده وتزول يا معوض سبحانه رب معين ■ ■ ■ اسمه التونسى ولكنه مصرى ولد فى الإسكندرية فى 1893. بيرم الشاعر الأشهر والأعظم فى العامية المصرية، سمى بالتونسى لأن جده لأبيه كان تونسياً، لكنه مصرى وإسكندرانى وابن بلد من حى «السيالة».. عاشق عظيم لهذا الوطن.. واحد من (المضروبين) بغرام مصر، كما يضرب الصوفى المتبتل بالوجد الإلهى فى حلقات الذكر.. عاشق متمرد، من أجل الحبيبة، تمرد وكأن التمرد هو (طريقته) الصوفية فى حب مصر. الحرية مفتاح شخصية بيرم.. الحرية قادته إلى التمرد على القيود.. من صغره رفض كتاب الشيخ جاد الله فى السيالة، وكره قسوة الشيخ ورغب عن التعليم الدينى كله، والتحق بالتجارة لكن نفس الشاعر بداخله – تلك النفس التى تبدت فيه وهو فى أوائل مراهقته – غلبت عليه فخرج من التجارة صفر اليدين. كان وجدانه يغلى بحب مصر وكراهية الاحتلال والنفور من القصر المتحالف معه ويغلى بحب البسطاء، الصبايا، و(معوض) رمز المصرى المغلوب على أمره.. ولم يكن بيرم الشاعر ليلتحق بالتنظيمات السرية، التى امتلأت بها مصر قبيل ثورتها الشعبية فى 1919. حارب بالشعر وبالصحافة.. قصائده آلمت القصر.. ضربت جلالته فى مقتل.. ومجلاته أوجعت الاحتلال، أصدر(المسلة) فأغلقها الاحتلال.. فأصدر (الخازوق) ليغلقها الاحتلال أيضا.. ولم تكن مصادفة أن تصدر هذه المجلات الداعية للحرية على يد بيرم فى العام نفسه، الذى قامت فيه ثورة 1919! لكن الاحتلال والقصر ما عادا ليطيقا أشعار بيرم العطشان، الذى يرجو الصبايا أن يسقوه، كانوا يريدون أن يظل ماء النيل عكرا، فنفى إلى تونس بسبب مقالة هاجم فيها زوج الأميرة (فوقية) ابنة الملك فؤاد، ولكنه لم يطق العيش فى تونس، فسافر إلى فرنسا ليعمل حمّالاً فى ميناء (مرسيليا) لمدة سنتين، وبعدها استطاع أن يُزوِّر جواز سفر له ليعود به إلى مصر، فيعود إلى أزجاله النارية، التى ينتقد فيها السلطة والاستعمار آنذاك، ولكن يلقى عليه القبض مرة أخرى، لتنفيه السلطات إلى فرنسا، ويعمل هناك فى شركة للصناعات الكيماوية، ولكنه يُفصل من عمله بسبب مرض أصابه، فيعيش حياة ضنكاً ويواجه أياماً قاسية ملؤها الجوع والتشرد، ورغم قسوة ظروف الحياة على بيرم فإنه استمر فى كتابة أزجاله وهو بعيد عن أرض وطنه، فقد كان يشعر بحال شعبه ومعاناته وفقره المدقع. وفى عام 1932 يتم ترحيل الشاعر من فرنسا إلى تونس، لأن السلطات الفرنسية قامت بطرد الأجانب، فأخذ بيرم يتنقل بين لبنان وسوريا، ولكن السلطات الفرنسية قررت إبعاده عن سوريا، لتستريح من أزجاله الساخرة واللاذعة إلى إحدى الدول الأفريقية، ولكن القدر يعيد بيرم إلى مصر، عندما كان فى طريق الإبعاد لتقف الباخرة التى تُِقلّه عند «بورسعيد»، فيقف بيرم باكياً حزيناً وهو يرى بورسعيد من بعيد، فيصادف أحد الركّاب ليحكى له قصته، فيعرض هذا الشخص على بيرم النزول فى بورسعيد، ليحرر بيرم من أمواج البحر ليجد نفسه فى أحضان مصر. عاد ونال العفو عندما جاء (فاروق) للحكم، ولم يكن الملك الشاب قد تلوث بعد.. ومن أخبار اليوم والمصرى إلى الجمهورية عمل بيرم.. وفى العهد الناصرى شعر بالتصالح مع النفس ومع النظام.. رحل الاحتلال ورحل القصر وأصبح (معوض) فى السلطة وارتوى عطش بيرم، الذى كتب أروع معانى الغرام لأم كلثوم وأروع معانى الوطنية التى صودرت، وصودرت معها حريته فى المنافى وصحته فى عيادات الأطباء!