على الرغم من المحدودية الراهنة لقواعدهم المجتمعية وضعفهم التنظيمى والقيود الرسمية المفروضة على حركتهم، تمتلك قوى اليسار فى مصر - إن رغبت - فرصًَا اجتماعية ومساحات سياسية حقيقية لصياغة رؤى بديلة لتوجهات نخبة الحكم، ولقناعات الإسلاميين، وللتحرك الشعبى الفعال. يعانى مجتمعنا من اختلالات اقتصادية واجتماعية طاحنة، أبرزها الفقر والبطالة وانهيار مستويات الخدمات الأساسية المقدمة فى قطاعات حيوية، كالتعليم والصحة وتهافت شبكة الضمان الاجتماعى. وقد عمقت السياسات الليبرالية التى اتبعتها نخبة الحكم منذ التسعينيات، وعلى نحو تصاعدى خلال الأعوام القليلة الماضية، من هذه الاختلالات ودفعت بالقطاعات الشعبية الفقيرة ومحدودة الدخل نحو لحظة تأزم حقيقية. أما الحركات الإسلامية، وفى مقدمتها جماعة الإخوان، فمازالت تفتقد القراءة الواضحة لكيفية التعامل مع الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية، وتتأرجح فى مقولاتها البرامجية ومواقفها العلنية بين نزوع شبه ليبرالى يعول على السوق والقطاع الخاص، ونزوع شبه يسارى، يريد عودة الدولة القوية الوصية على المجتمع. هنا يملك اليسار المنظم حزبياً وفعاليات اليسار الجديد الحاضرة فى المجتمع المدنى والساحة الإعلامية، فرصة حقيقية لصياغة رؤية بديلة، تدفع إلى الواجهة بقضايا العدالة والمساواة، وتكثف النقاش حول العقد الاجتماعى المفقود فى مصر وحاجتنا الماسة للتوافق بشأن كيفية تقليص الفجوة متزايدة الاتساع بين الأغنياء والفقراء، وضمان حد أدنى من الحياة الكريمة لجميع المصريين. على صعيد ثانٍ، لم يرتب رفع نخبة الحكم يافطات الإصلاح والانفتاح الديمقراطى خلال الأعوام الماضية، نقلات إيجابية فى مجال الحريات السياسية والمدنية. كذلك لم يؤدِ تصاعد حراك جماعة الإخوان وتنامى وزنها السياسى، إلى اتساع مستدام لساحات المنافسة الحزبية. وعجز الإسلاميون عن وضع ضغوط فعلية على النخبة للإصلاح الديمقراطى. تدنى مستويات ممارسة الحريات السياسية والمدنية، وتراجع مصداقية يافطات الإصلاح الحكومية والإسلامية يتيحان لقوى اليسار الاعتماد على قضايا، مثل: حرية التنظيم الحزبى والنقابى، وضمانات نزاهة الانتخابات وحق المواطنين فى التعبير الحر عن قناعاتهم، وممارسة النشاط العام كمرتكزات لدورهم فى الحياة السياسية المصرية. الشرط الأساسى هنا هو إنتاج خطاب ديمقراطى واضح المعالم يستند إلى مبادئ مواطنة الحقوق المتساوية والتعددية ويتجه فى ممارسة متسقة إلى المواطنين خاصة أولئك المحرومين سياسياً ومدنياً أكثر من غيرهم كالأقباط والنساء. أخيراً، لا شك فى أن حالة الاستقطاب بين نخبة الحكم والإسلاميين أدت إلى هيمنة لغة المعادلات الصفرية ومقاربات الأبيض والأسود التسطيحية على مجمل النقاش العام والحياة السياسية. وواقع الأمر أن العديد من سياسيى وحركيى اليسار قد وقعوا فى شراك ذات التسطيح، فليست النخبة بكل مكوناتها وليس الإسلاميون على اختلاف قناعاتهم بشرًا خالصًًا. نعم.. هناك فى اللحظة الراهنة غلبة بادية لتوجهات رسمية وإسلامية، إما ذات تداعيات سلبية على مجتمعنا أو عديمة الفاعلية، إلا أن البحث عن إمكانيات الإصلاح الاقتصادى والاجتماعى والتحول الديمقراطى - إن أريد له أن يكون واقعياً وجاداً - لا يستطيع أن يتجاهل التفكير المنظم فى مساحات المشترك مع النخبة والإسلاميين، ومن ثم تحديد المفردات والمضامين المحتملة للتنسيق والتعاون معهم بشأن قضايا مصر المركزية.