تنازعتني مداخل ورؤى عديدة حين الشروع في كتابة هذا المقال. فمحاولة استشراف مستقبل مصر الدولة والمجتمع خلال الأعوام القادمة والشروع في نقاش عام حوله، وأن مثل بلوغنا نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة فرصة ملائمة له، يشكل ممارسة فكرية محفوفة بمخاطر ومحاذير جمة. بداية، تنقصنا في مصر، شأننا في ذلك شأن معظم دول العالم الثالث، المعلومات والبيانات الدقيقة عن حقائق الوضع الديموجرافي والاقتصادي والاجتماعي الحالي ومسارات تطورها المستقبلي المتوقعة، وتلك قاعدة انطلاق لا غنى عنها لاستشراف المستقبل بشيء من الموضوعية. ثانيا، نعاني في مصر من صعوبة تحصل الكتاب والباحثين وعموم المنشغلين بالهم العام على القليل المتوفر من المعلومات والبيانات الرسمية حيث تحجب معظمها مؤسسات الدولة وراء ستر كثيفة من التصريحات الحكومية الهادفة دوما لصناعة صورة وردية لمستقبل تخط معالمه وعود بتقدم شامل سيرتب تراجع الفقر والبطالة وتحسن الخدمات الأساسية في مجالات الصحة العامة والتعليم والمواصلات وارتفاع معدلات التصنيع والتصدير واستخدامات الطاقة البديلة. ثالثا، تعتقد أغلبية واضحة من المصريين، على ما تظهر مضامين النقاش العام الراهن، أننا نمر اليوم بلحظة مخاض عميقة على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية حتما ما ستسفر عن تحولات هامة خلال الأعوام القادمة. والحقيقة أن شيوع مثل هذا الاعتقاد يضع الساعين للتدبر في مستقبل مصر تحت الوطأة المعرفية والفكرية لتغليب التوقعات القاضية بالتغيير في مقابل تلك التي قد تنحى إلى افتراض بقاء جوهر الكثير من الأمور على ما هو عليه. في ضوء المخاطر والمحاذير هذه، تحوي الأسطر التالية بعض الملاحظات حول مستقبل مصر الدولة والمجتمع وكيفية إدارة النقاش العام بشأن التحديات التي سنواجهها خلال الأعوام القادمة. أولا، تشير المعلومات والبيانات الدولية المتوفرة إلى أن عدد سكان مصر سيقترب بحلول عام 2020 من 100 مليون نسمة، وذلك في ظل توقع استمرار الزيادة السكانية السنوية على معدلاتها الراهنة وهي 2.1 بالمئة. تطرح إمكانية وجود 100 مليون مصرية ومصري تحديات كبرى في مجالات مكافحة الفقر وسياسات التشغيل والتعليم والصحة العامة وغيرها. فاليوم في ختام العقد الأول من الألفية الجديدة يتجاوز الفقر في مصر وفقا لأكثر التقديرات الراهنة تواضعا نسبة 20 بالمئة، ويرتفع معدل البطالة إلى 10 بالمئة، وتعاني قطاعات التعليم والصحة العامة والمواصلات من اختناقات وتراجعات حقيقية. وتزداد صورة المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية قتامة في محافظات الصعيد، حيث ترتفع نسبة الفقر إلى ما يزيد عن 50 بالمئة في محافظتي أسيوط وسوهاج وتتركز 762 من بين القرى الألف الأكثر فقرا على مستوى الجمهورية في محافظات المنياوأسيوط وسوهاج، وبها كذلك تتجاوز نسبة البنات والأولاد غير المندرجين في التعليم الأساسي في المجموعات العمرية بين 6 و18 سنة حاجز ال20 بالمئة في مقابل 14 بالمئة في المتوسط الوطني. وبافتراض بقاء معدلات النمو العام خلال الأعوام القادمة على وضعيتها الراهنة، أي سنويا بين 4 و6 بالمئة، سيستمر تدهور المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية لتصبح حقائق المشهد المصري عام 2020 ترتكز إلى ما لا يقل عن 30 بالمئة نسبة فقر ومعدل بطالة بين الشباب يتجاوز 20 بالمئة وفروق حادة في الخدمات الأساسية بين المحافظات الفقيرة في الصعيد وتلك الأفضل حالا في المناطق الحضرية الكبرى والمناطق الريفية في الدلتا. تحتاج مصر، وفقا لتقديرات المنظمات الدولية، إن أردنا لسكانها البالغ عددهم 100 مليون بحلول 2020 أوضاعا اقتصادية واجتماعية أفضل من تلك السائدة اليوم أو على الأقل ليست أكثر سوءا، أن ترتفع معدلات النمو العام بها لتقترب تدريجيا من 10 بالمئة، وهو ما يبدو بحسابات اليوم وتوقعات اليوم لأداء اقتصاد مصر المستقبلي غير واقعي. ثانيا، حين استقبلت مصر الألفية الجديدة عام 2000 كانت حياتها السياسية تتسم بركود بالغ. آنذاك، وبعد مرور عقدين على ممارسة التعددية المقيدة التي سمحت من جهة لأحزاب وقوى المعارضة بالمشاركة في الانتخابات التشريعية وأعطت لها بالتبعية مساحة من الوجود المحدود غير المؤثر في مجلسي الشعب والشورى ومهدت من جهة أخرى لاتساع هامش التعبير الحر عن الرأي في الإعلام المكتوب ثم المرئي ولتحسن طفيف في وضعية حقوق الإنسان بعد انتهاء مواجهة التسعينيات العنيفة بين سلطات الدولة والجماعات الإسلامية المسلحة، اتسمت الحياة السياسية المصرية بهيمنة مطلقة لنخبة الحكم وفي موقع القلب منها الرئيس والمؤسسات العسكرية والأمنية والحزب الوطني الحاكم وبغلبة نزوع شبه ليبرالي على السياسات الحكومية الاقتصادية والاجتماعية لم يرتب تقدما حقيقيا لجهة ارتفاع معدلات النمو العام ومؤشرات التنمية المستدامة. اليوم وبعد انقضاء العقد الأول من الألفية الجديدة أضحى النزوع شبه الليبرالي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية كامل الليبرالية بعد تحرير سعر صرف الجنيه المصري وتسارع خطوات بيع القطاع العام وتسهيل إجراءات الاستثمار الخارجي وملكية غير المصريين في مختلف القطاعات الاقتصادية والمالية. وعلى الرغم من تحسن معدلات النمو في الفترة بين 2005 و2007، إلا أنها عادت وتراجعت عامي 2008 و2009 على وقع الأزمة الاقتصادية العالمية ولم تسفر من ثم عن تحسن نوعي في مؤشرات الفقر والبطالة أو رتبت رفع مستويات تمتع المواطنين بالخدمات الأساسية. أما الحياة السياسية فطرأ عليها شيء من الدينامية في أعقاب انتخابات 2005 الرئاسية والبرلمانية. بيد أن هذه الدينامية، وما واكبها من تصاعد للنفس المعارض في مصر، لم ترتب تغيرا نوعيا إن لجهة هيمنة نخبة الحكم على السياسة وسطوة السلطة التنفيذية، أو فيما خص التأثير المحدود لأحزاب وحركات المعارضة على السياسات العامة وغياب فرص تداول السلطة. وربما ارتبطت التغيرات الأبرز بين عام 2005 واليوم بارتفاع سقف التعبير الحر عن الرأي في الساحات الإعلامية وبتحول الإعلام الخاص مكتوبا ومرئيا إلى مكون أساس في الحياة العامة من جهة، ومن جهة أخرى بانفتاح نخبة الحكم على نخب المال والأعمال واستيعاب بعض رموزها النافذة في الحياة السياسية. بعبارة بديلة، مازالت معضلة غياب الديمقراطية تصيغ حقائق الحياة السياسية في مصر مطلع 2010 وتبدو بحسابات اللحظة الراهنة وكأنها مرشحة للاستمرار خلال الأعوام القادمة. نعم يتصاعد اليوم مع قرب الانتخابات البرلمانية في خريف 2010 والرئاسية في 2011 الحراك في صفوف المعارضة ويطالعنا الإعلام يوميا بأنباء عن تحركات ائتلافية جديدة وبأسماء لمرشحين يرغبون أو يطالبون بالمنافسة على المنصب الرئاسي، بيد أن إزاء تماسك نخبة الحكم وفوارق القوة بينها وبين المعارضة والبيئة الدستورية المعوقة للمنافسة يمكن بواقعية التنبؤ بأن النخبة ستنجح على الأرجح في حسم ملفي الانتخابات البرلمانية والرئاسية لصالحها دون تحديات كبرى. بقيت إشارة هامة تقتضيها موضوعية التحليل، آلا وهي أن مصر مؤهلة بسقف الحرية الحالي وزخم النقاش العام للتطور الإيجابي باتجاه المزيد من التحسن النسبي في وضعية حقوق الإنسان وشيء من الشفافية والمحاسبة فيما خص السياسات العامة وشاغلي المنصب العام. ثالثا، إن كانت الحياة السياسية الرسمية في مصر 2010 لا تعد مصدرا للتفاؤل حين استشراف المستقبل، فأن ثمة مناحي أخرى على هامش السياسة تحوي مضامين ومسارات تطورية إيجابية وينبغي بالتبعية إفراد مساحات أوسع لإدراجها في النقاش العام. فمن جهة، يعكس المجتمع المدني اليوم بهيئاته ومنظماته وشبكاته درجة غير مسبوقة من التعقد التنظيمي والتنوع الوظيفي تمكن من التعامل مع قضايا شديدة الاختلاف كحقوق المرأة وحقوق الإنسان والحقوق الاقتصادية والاجتماعية لمحدودي الدخل والفقراء من المصريين والحريات الدينية. كما تتطور في الآونة الراهنة ظاهرة الاحتجاج الاجتماعي ذات المطلبية المحددة والمرونة التنظيمية التي تضغط من خلالها قوى مجتمعية مختلفة على السلطات الحكومية لانتزاع تغيرات جزئية جلها يتعلق بالخدمات الأساسية ومستويات الأجور والضمانات. اللافت هنا أن الحكومة التي يندر أن تتنازل في الحياة السياسية الرسمية تبدو حين التعاطي مع الاحتجاجات الاجتماعية باحثة عن التوافق ومستعدة للتنازل، الأمر الذي سينتج بلا ريب تحولا هاما في تقييم المواطنين لقدراتهم الجمعية على التعبير عن رغباتهم والسعي نحو تحقيقها، وأيضا فيما خص نظرتهم للحكومة التي لم تعد ذلك الكائن المخيف الذي يستدعي مجرد التذكير بوجوده فروض الطاعة العمياء. أخيرا، تمر قطاعات حيوية في المجتمع المصري كالإعلام واستخدامات تكنولوجيا الاتصال الحديثة بعمليات تحديث متسارعة تغير من ثقافة ومعارف وتوقعات قطاع متنامي من المواطنين، معظمهم من الشباب، وتقارب بينهم وبين شباب يعيشون في ظل ترتيبات ديمقراطية على امتداد الرقعة الأكبر من المجتمعات البشرية. إن أخذت معا، تبشر الحقائق المرتبطة بتنوع المجتمع المدني وتصاعد وتائر الاحتجاج الاجتماعي والتحديث السريع في بعض القطاعات الحيوية بأن المجتمع المصري مقبل على مرحلة يسبق بها معرفيا وتنظيميا الترتيبات السياسية القائمة، ويضغط من ثم على القائمين عليها لإنجاز تغيير حقيقي يضمن على المدى الطويل تماهيها مع تطلعات مجتمع المواطنين نحو الحرية والديمقراطية.