الأمانة تقتضى أن نقول، إن عبء تنفيذ التوجيه الرئاسى الذى صدر عن الرئيس مبارك صباح الأحد الماضى، أمام مجلسى الشعب والشورى، لا يقع على الدكتور فاروق العقدة وحده، بوصفه محافظاً للبنك المركزى، لأن القول بذلك فيه إعفاء للحكومة من خطوات يتحتم عليها القيام بها مقدماً! صحيح أن «جون كلود تريشيه» محافظ البنك المركزى الأوروبى، قد أعلن بعد لقائه مع الدكتور العقدة فى القاهرة، صباح الأربعاء الماضى، استعداده لخفض الفائدة على القروض بالنسبة لليورو مرة أخرى، بعد أن كان قد أجرى تخفيضاً عليها، بنسبة نصف نقطة فى 8 أكتوبر الماضى، وصحيح أن البنك المركزى الصينى قد خفض الفائدة على القروض بنسبة 1.08%، الأسبوع الماضى، وهو التخفيض الرابع خلال شهرين، ولكن كل ذلك لابد أن يلفت نظرنا إلى أن هناك اختلافاً بالضرورة بين الوضع هناك، وبين الوضع هنا، وأنه إذا كان الرئيس قد طالب الحكومة صراحة أمام البرلمان، باتخاذ خطوة مشابهة لما اتخذه المصرفان المركزيان فى الصين، وفى أوروبا، فإن مسؤولية الحكومة فى تنفيذ مثل هذا التوجيه الرئاسى لا تقل بأى حال عن مسؤولية البنك المركزى، إن لم تكن تزيد وتسبق! إن أى حياة اقتصادية قوية فى أى دولة طبيعية تقوم على سياستين متوازيتين، لا ثالث لهما: سياسة مالية هى من أصل عمل الحكومة، وسياسة نقدية، هى من اختصاص البنك المركزى وحده، يمارسها فى استقلالية كاملة غير منقوصة! وإذا كان البنك المركزى يضم لجنة للسياسة النقدية تجتمع كل فترة، وتحدد ما إذا كان مطلوباً خفض أسعار الفائدة أو حتى رفعها، أو إبقاؤها عند مستواها الذى تكون عليه، فإن هناك فى المقابل مجلساً أعلى للسياسة النقدية، كان قد نشأ لأول مرة منذ عام أو أكثر، برئاسة رئيس مجلس الوزراء، و هو - أى المجلس الأعلى للسياسة النقدية - يبدو غائباً تماماً عن الصورة، هذه الأيام، رغم أن صميم عمله هو التنسيق المستمر بين السياسة المالية للحكومة، والسياسة النقدية للبنك المركزى، لمواجهة تداعيات الأزمة المالية العالمية علينا. سألت الأستاذ محمود عبدالعزيز، رئيس البنك الأهلى السابق، عما إذا كان فى إمكان العقدة أن يخفض سعر الفائدة هذه الأيام، استجابة لطلب الرئيس فى خطابه، وتحفيزاً للاستثمار، فى ظل مناخ يخيم عليه الركود بوجه عام، فكان تقديره أن هذه الخطوة ليست ممكنة اليوم، وليس فى مقدور الدكتور العقدة مطلقاً أن يتخذها قبل ثلاثة أشهر على الأقل من الآن، تكون الحكومة خلالها قد ضبطت سياستها المالية كما ينبغى أن تكون عليه، أما الآن فليست ممكنة ولا يجوز أن يتعرض محافظ البنك المركزى لضغوط من أى نوع فى هذا الاتجاه! ولابد أن كلام محمود عبدالعزيز ينبهنا إلى شىء مهم للغاية، وهو أن الحكومة ليست مطالبة فى هذا العصر بوظائفها التقليدية فقط، والتى كانت تنحصر تاريخياً فى الدفاع، والأمن، وخلافهما، وإنما لها وظائف ثلاث جديدة لا مفر من أن تنهض بها كاملة، قبل أن تطالب البنك المركزى بأن يخفض الفائدة سريعاً، ليتحمل عواقب تقصيرها كحكومة، هذه الوظائف هى: تشجيع المنافسة لأقصى مدى ومنع الاحتكار تماماً، وبأى وسيلة، ثم وقوفها حكماً بين الطبقات، فلا تعتدى طبقة على أخرى، ولا تتغول طبقة على حساب طبقات فقيرة فى المجتمع، بما يؤدى فى النهاية، إجمالاً، إلى ضبط الأسعار! الحكومة مطلوب منها أن توجه إنفاقها العام، إلى كل ما هو ضرورى فقط، وكل ما هو إنتاج فقط، ومطلوب منها أن تبتعد عن كل مظاهر الفشخرة فى الإنفاق العام، ومطلوب منها أيضاً أن تضبط هذا الإنفاق، بكل حزم، وحسم، وقوة، وأن تقول لنا أين المجلس الأعلى للسياسة النقدية بالضبط، ومتى اجتمع آخر مرة فى ظل هذه الظروف الاقتصادية الصعبة! فاروق العقدة مسؤول عن التجاوب مع طلب الرئيس، لإنعاش الاستثمار.. هذه حقيقة.. ولكن ليس قبل أن تسبقه الحكومة وتمهد أمامه الطريق!.. حتى لا نرغمه على ما ليس فى طاقته، كمحافظ وليس فى طاقة اقتصاد البلد! ويجد نفسه فى غاية الإحراج، بين توجيه رئاسى لا يستطيع أن يتجاهله، وبين سياسات حكومة لا تسعفه!