الأمم والحضارات مثل الأفراد، تسقط وتنهار وتمرض وتصاب بالجلطات من قلة الحركة والتغيير، ولا فرق بين كبير وصغير، فقد انقرض الديناصور رغم ضخامته واستمرت النملة رغم ضآلتها، لأنها استجابت لتحديات التغيير، وعادة ما يبدأ الانهيار من الداخل فتصبح الأمة هشة قابلة للكسر من الفتن والمؤامرات والصراعات والفساد والترف، وعند هذه اللحظة يأتى عدوها الخارجى ويطلق عليها رصاصة الرحمة ويعفيها من الاستمرار فى عالم لم تعد تنتمى إليه وفق نظرية ارنولد توينبى فى التحدى والاستجابة، حيث كان يرى وهو المؤرخ الكبير «أن الحضارات لا تموت قتلاً، وإنما تموت انتحاراً»، وهو ما يؤكده أيضاً المؤرخ الأمريكى وول ديورانت من أن الحضارات العظيمة لا تنهزم إلا عندما تدمر نفسها من داخلها، مشيراً إلى أن أى مجتمع لا يستطيع أن ينهض دون مساعدة أساسية من الدين، وعلى نفس المنوال يرى المفكر العربى مالك بن نبى، وقبله ابن خلدون، أن انحلال الحضارات يرافقه فساد روحى ويتزامن مع بدء مرض اجتماعى، قلما يجذب انتباه المؤرخين وعلماء الاجتماع لأن آثاره المحسوسة تكون بعيدة، والمعنى أن الشعوب تصاب بالأمراض، ولكنها لا تموت إذا كانت قوية بدينها وعقيدتها، ولهذا سقطت الإمبراطورية السوفيتية عندما كان المسؤول عن اختيار القيادات العليا لا يختار إلا الأسوأ، فيما نجح السادات فى القضاء على نظام عبدالناصر فى ليلة واحدة وبدون أن يطلق رصاصة واحدة، لأن صراعات مراكز القوى وفتن الدولة البوليسية قد دمرت الدولة من الداخل، وذلك عكس محمد على الذى ذبح قواد المماليك الذين كانوا ينازعونه السلطة، فى حين اختفى صدام ورفاقه وجيش الفرس الجرار ليلة الغزو، ولم تبدأ المقاومة الحقيقية للشعب العراقى إلا بعد أن نزل صدام وأركان نظامه فى الحفر، ولاتزال مقولة عائشة أم عبدالله الصغير، آخر ملوك الأندلس، وهو يبكى بعد أن سلم غرناطة «ابك كالنساء على ملك لم تصنه كالرجال» صالحة لكل زمان ومكان، وكان قد سبق هذا الانهيار حروب الطوائف الشهيرة، ويوم غزا هولاكو بغداد وأسقط الخلافة الأموية، كان المستعصم غارقاً فى اللهو والملذات، بينما كان التتار يجوبون الأرض بحثاً عن المجانيق وآلات حصار بغداد، ومعروف أن الخلافة العباسية سقطت، عندما كان الخلفاء لا يفرقون بين الحق والباطل، والأمر نفسه مع العثمانيين، ولا نزال نذكر بيان أنور السادات فى مبررات القضاء على النظام الملكى فى 52 بعدما انتشرت حالة من الفساد والرشوة والمحسوبية، وعلى طريقة القرآن الكريم فى ضرب الأمثال للناس لإعمال العقل، كم من حضارات سادت ثم بادت، بعد أن سيطر على كل حضارة نوع من الانحراف والطغيان، فقوم نوح طغوا واستكبروا على الضعفاء فكان مصيرهم الغرق، وعاد قوم هود طغوا فى البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب، وثمود قوم صالح طغوا بالنعمة والترف، وكذلك قوم لوط طغوا بالشهوة المنحرفة، وأهل مدين قوم شعيب تلاعبوا بالكيل والموازين، ثم فرعون المستبد الذى استعبد قومه ولم تردعه كل آيات الله قال لقومه أنا ربكم الأعلى، فكان أن أغرقه الله ومن اتبعه، ولأن القوانين الإلهية والسنن الكونية ثابتة وغير قابلة للتبديل، فإن ما حدث لتلك الأمم والحضارات ينذر كل الطغاة والفاسدين، ولا تزال نبوءة ليوسيلارد عالم الذرة الشهير بأن سقوط النظام السوفيتى سيؤدى فى نهاية المطاف لسقوط أمريكا، عكس ما قرره فرانسيس فوكوياما وهو يجزم بنهاية التاريخ، وأن النصر انعقد نهائياً لليبرالية، وفجأة تأتى الأزمة المالية لتفضح هذه المزاعم التى جعلها البعض نصاً مقدساً، ثم تفضح أكثر الإمبراطورية الأمريكية فى أعز ما تملك وهى نظرية حرية السوق، ويمد الله فى أعمارنا لكى نشاهد السياسيين الأمريكيين يلجأون إلى ماركس ولينين بحثاً عن الخلاص، لأنهم ببساطة لم يدرسوا قوانين السقوط بقدر دراستهم قوانين الصعود!