ثمة قناعة لدى الحكومة المصرية مؤداها أن الشعب المصرى غنى، بطونه (شبعانة) وجيوبه منتفخة بورق البنكنوت من كل لون وصنف، ولأنها تستكثر أن يعيش أبناء الشعب فى بحبوحة من عيش، فلقد تفتق ذهنها (الألمعي) عن أفكار تسطو بها على جيوب المساكين ممن تزيد أعمارهم على 21 عامًا عبر مشروع يثير الضحك (الذى هو أشبه بالبكاء) ويبعث فى التحليل النهائى - على القىء والغثيان.. فكل شيء - فى مصر المحروسة - قابل للبيع والشراء حتى الضمائر لم تسلم من هذه القاعدة العولمية التى أدت إلى تسليع (من سلعة) الإنسان وقيمه وأخلاقه. العجيب والغريب أن الحكومة المصرية تعيش حالة من التناقض مع ذاتها ومجتمعها والشعب الذى من المفترض أنها تمثله وتعمل من أجله ففى الوقت الذى يصرخ فيه الجميع - حتى فى الدول المتقدمة من تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية، يخرج علينا أشاوس الحكومة مؤكدين أن الاقتصاد المصرى بألف خير ولا داعى للانزعاج! وفى الوقت الذى تتدخل فيه دول بحجم أمريكا وإنجلترا لشراء أو لتأميم (لافرق) بعض الشركات والبنوك تسير فى اتجاه تقليص مساحة الخصخصة نجد حكومتنا الميمونة تُطلق يدها - مثنى وثلاث ورباع - فى الشركات العامة عارضة إياها للبيع.. أى أنها - عكس دول العالم - تسعى إلى تعميق وتوسيع رقعة الخصخصة. ويتحدث أحد وزرائها عن حصة كل فرد فى ملكية الأصول والتى تتراوح بين 500 و700 جنيه متحدثًا بأن الحكومة - والحالة هذه - إنما تحقق فتحًا كبيرًا لمصر وأهلها! ومعلوم أن عدد سكان مصر البالغين أكثر من 21 عامًا يزيد على 40 مليونًا وهذا معناه أن الحكومة الميمونة ستبيع مصر بآلاف آلاف الملايين لسكانها الذين - من المفترض أساسًا - أنهم يملكون كل شيء فى مصر، وكأنى بحكومة الدكتور نظيف تستدعى إلى الذاكرة الفنان إسماعيل ياسين الذى ضحك عليه بعض السماسرة المحتالين وباعوا له ميدان العتبة الخضراء! بمعنى أننا - فى مصر - نعيش لحظة من اللامعقول التى تحرض النفس على السأم والقنوط.. وتملأ الحلقوم بالغصص والمرارة.. فغدًا - ووفق قواعد ملكية الأصول - لن يكون مُستبعدًا أن نجد الأهرامات وكباش كوبرى قصر النيل فى مزاد علنى لمن يدفع أكثر. وأرجو أن يغفر لى الغافرون هذا الذنب، إذ وجدت نفسى متلبسًا فى التفكير فى الرئيس الفرنسى ساركوزى الذى وضع خطة لإنشاء صناديق وطنية.. وعندما سئل لماذا تفعل ذلك.. أجاب لأنه يخشى أن يستيقظ من نومه ذات صباح ليكتشف أن فرنسا قد بيعت لشركات وبنوك ومصارف أجنبية.. وبالتالى فإن الصناديق الوطنية التى شرع بالفعل فى بنائها ستكون والحالة هذه - صمام أمان يضمن بقاء فرنسا لأهلها وسكانها ومواطنيها. هكذا يفكر ساركوزى، بينما يفكر الدكتور نظيف فى عكس ذلك تمامًا - فهو يريد أن يشترى كل مواطن حصته ثم يكون له حق التصرف فيها - بعد ذلك - بالبيع لمن يشاء من الأخوة العرب أو المستثمرين الأجانب. وهكذا ينوب المواطن المسكين عن الحكومة فى أسوأ صفقة تجارية يمكن أن يقوم بها إنسان وهى أن يبيع وطنه، وكل ما يملك! ولأن كل ما يهم حكومة الدكتور نظيف أن تجمع الأموال من الشعب، فلقد كان على حق ذلك القائل إن ما يحدث فى مصر بمقتضى هذه الفكرة المجنونة (بيع الأصول) هو شىء أشبه بتوظيف الأموال.. فكان الدكتور نظيف يفعل الشيء نفسه الذى فعله أشرف السعد، والريان، والشريف وغيرهم.. ممن سرقوا أموال الشعب المصري.. وقد يكون صحيحًا أن الحكومة رأت أن تتحرش بالمواطنين (اقتصاديًا) فتُسيل لعابهم عن أرباح، وملكية وحقوق مع أنها تقوم بأكبر عملية سطو وسرقة فى تاريخ مصر. فهذه الشركات العامة التى يعرضونها للبيع هى فى الأصل ملكية عامة، انشأتها الحكومات المصرية المتعاقبة من أموال الشعب.. فكيف تبيع حكومة نظيف ممتلكات الشعب للشعب.. أو بمعنى آخر كيف أشترى ما هو فى حوزتى أصلاً.. وهل يدفع المرء الثمن مرتين فى أى سلعة؟! إنه منطق الدكتور نظيف وحكومته التى أصبحت أشبه (باللبانة) فى أفواه الكثيرين يسخرون منها، ويضحكون عليها.. وفى نهاية المطاف يطلقون فيها ألسنتهم بكل ما يلذّ ويطيب من عبارات واتهامات وسوء نية. والحق أن هناك من يرى أن الحكومة لم تفعل ما فعلت إلا لأن الشعب يستحق ذلك فعلاً لا قولاً وفقًا للمنطق الذى يقول: من أنفسكم يُولى عليكم! فالحكومة ترى الشعب يستهلك عشرات المليارات فى ثرثرات فارغة - لا تنتهى - فى الموبايل.. وينفق مليارات أخرى فى الدروس الخصوصية، ويشترى حديد أحمد عز الذى تتراقص أسعاره ارتفاعًا دون أن يجأر أحد بالشكوى ودون أن يسأله أحد عن سبب هذا الجنون فى الأسعار. واليوم من حق الشعب المصرى أن يسأل: لمصلحة من تبيع حكومة الدكتور نظيف مصر.. وماذا سيفعلون بكل هذه الأموال، فى حالة البيع؟! ألم يقولوا ليل نهار إن دخل قناة السويس قد فاض به الكيل، وعوائد السياحة الأجنبية وتحويلات المصريين التى بلغت كما تقول وزيرة القوى العاملة والهجرة أكثر من 6 مليارات دولار؟!. أخيرًا إذا كانت مصر بهذه الدرجة من الغنى وتتدفق عليها الأموال والمنح والهبات من كل حدب وصوب، فلماذا يُصرون على بيع مصر؟!.. وهل يمكن أن يبيع إنسان (البقرة الحلوب) إلا إذا كان جاهلاً أو عميلاً أو الاثنين معًا؟!