كان «نورالدين» نسيجًا وحده بين الفتيان. لم تعرف المدينة أطيب منه نفسا ولا أنقى سريرة. لم يعرف شرور المدينة ولا دبيب الغرائز الغامضة. نشأ يتيم الأب فاحتضنته أمه وكرّست له حياتها، ولم تتزوج من أجله رغم كثرة الخطّاب. ورث «نور الدين» من أمه حسنها وصفاء بشرتها، ونشأ نشأة سوية، فأحبه أهل الحى جميعا، لصدقه وأمانته وجاذبية ابتسامته، فصار ابنا للجميع. وحينما بلغ «نورالدين» مبلغ الفتيان، وتسلح بالأخلاق الحميدة، فكر فى ممارسة مهنة، لذلك خطرت على باله فكرة أن يمارس التجارة. شرع يستعرض أنواع التجارة المختلفة، تجارة حبوب، تجارة عطور، تجارة طعام، مواد بناء، مستلزمات نساء، وفى كل مرة يشعر بنفور من الفكرة، يود أن تكون مهنته رسالة، وتجارته فائدة للإنسانية، فيرد الجميل لأهل الحى الذين ساندوه فى رحلة الحياة. وفجأة خطرت الفكرة بباله، ماذا لو استخلص من ذاته كل الخصال النبيلة وعرضها للبيع. ماذا لو كانت تجارته السعادة يهبها عن طيب خاطر للتعساء! وبالفعل، استأجر حانوتا، وكتب بخط أنيق ثابت: «بضاعة الكمال». لم تظهر على أمه السعادة وهى تستمع للفكرة، لكنها لم تحاول إثناءه، وتركته يخوض التجربة ويتعلم منها دروس الحياة. وفى يوم الافتتاح استلفتت غرابة التجارة أنظار المارة، فشرعوا يتجمعون حول الدكان. ووقف «نور الدين» بجلبابه الأبيض وبسمته الطليقة يُدلّل على بضاعته وينادى عليها ويستعرض محاسنها. وبصوت عذب منغم راح يقول: «من يشترى الحب؟ إكسير السعادة ومنبع المشاعر الرقيقة الذى يلوّن العالم بأبهى الألوان». التف الناس حوله، كلهم يريدون الحب، قال شاب اقتحم الجمع الحاشد: «أنا أولى الناس بالحب. فأنا شاب فى مقتبل الحياة. وثمة فتاة أريد أن أصل إليها وأمارس معها الحب، فهل لو شربت من المسحوق سوف تستجيب لى؟». وقال رجل انتشر الخريف فى شعره: «بل أنا أولى ببضاعتك. فلقد أدبر الشباب عنى ولا شىء يسحر عيون الصبايا إلا مسحوق الحب». وقالت امرأة عبث الزمان بعنقها ووجهها: «بل أنا الأولى به. أريد أن أجتذب الخطاب». استمع «نور الدين» فى انزعاج وقال: أخشى أنكم أسأتم فهم تجارتى. ما تطلبونه ليس الحب، وإنما الشهوة. الحب معنى أسمى بكثير. إنكم تستخدمونه طعما للصيد ونيل مآربكم. فاذهبوا إلى الدكان المجاور، المعلق عليه لافتة «متجر الشهوات». وبالفعل تناقص عدد الزبائن الذين أسرع معظمهم إلى المتجر المجاور، وراحوا يزدحمون عليه. قال «نور الدين» لنفسه مواسيا: «لعلهم لا يحتاجون الحب بقدر حاجتهم إلى الشجاعة والإقدام!». تقدم شاب يبدو عليه الهزال، وقال: «أنا أولى الناس بالشجاعة. أريد أن أتغلب على باقى الرجال. «قال» نور الدين «آسفا» هذا خلط فظيع. الشجاعة هى بذل النفس بلا تردد من أجل المحبوب. من الممكن أن تكون شجاعا دون قوة عضلية. ما تقصده هو البطش، وهذا ستجده أيضا فى متجر الشهوات. انفض الجمع عن «نور الدين». ولم يبق أحد أمام الدكان. أحس بالحيرة والعجز عن فهم العالم. لماذا اختلط الأمر على الناس؟ لماذا يخلطون بين الحب والشهوة؟ وبين الشجاعة والبطش؟. أغلق الدكان وانصرف إلى بيته متأملاً: «قبل أن نطلب الكمال نحن بحاجة أن نعرف أولا ما هو الكمال». [email protected]