«ونحن نهبط على المنحدر، صامتين كالحجارة، لماذا السياط؟»، بأسئلة تبدو كقبضات رمل فى راحة اليد، يمضي سامي سعد في ديوانه «كملك يتأهب للفرار»، بطاقة على إدهاش قارئه وخداعه، فالديوان الذي يبدو على الأقل في قصائده الأولى، كمرثية طويلة لزوجته، ويميل إلى كتابة توهم بالرقة في البداية، تتكشف رويدا رويدا عن كتابة وحشية، تزيح الزائف بغضب من يقف في موضع اللاموت واللاحياة، يورطك معه، لتكتشف ربما أن جميعنا نشاركه تلك المساحة التي ترعى الزيف، مساحة ينتقم منها شاعرنا ببصيرة نافذة. يبدأ الديوان بمفارقة لوم زوجته على الغياب بالموت، وانكار هذا الموت، فنجد رجلا يقيس المسافة بينه وبينها فب السماء، ويعيد انتاج حضورها على الأرض، مطاردًا المستحيل، فهو الذي «حملها بين ذراعيه، موصدا عليها باب القبر»،ل«ينطلق كالمسعور بحثا عنها في الطرقات». يدرك هذا الغياب، ورغم ذلك يصف من يطالبونه بالشفاء من انكار موتها، بالحمقى والجاهلين أنه يعرف «مشكلته تماما، موقن بموتها»، لكنه وباختياره التام هو الذي قرر «ألا يشفى»، أن يعلق في حالة اللاموت واللاحياة تلك، حتى في ما يفصح عنه رويدا وريدا،عن ملامح تلك الأنثى وطباعها، وأشياءها التي تحبها، يترواح بين تقديسها كملاك، وحبها كبشر، تتشاجر معه وتعاتبه على أخطائه. تلك خدعة الديوان، أيضا، رغم الإيهام أنها مرثية للأنثى الغائبة، التي نعرف من التفاصيل أنها الزوجة، ينكشف الأمر، إنها مرثية للشاعر، «الملك الذي يتأهب للفرار»، من ترك ملكه وملكوته، «فكل ما كان بينهما، صار في حوزة آخرين، أولئك اللذين يكبرون على خلايا دمنا»، فحتى البرتقالة «الصفراء والناعمة كالحب، والتي أثمرت»، لا فائدة منها، ففي اللحظة التي أثمرت فيها، لا مهرب أن يهديها لها «في القبر»، كباب الحب المغلق دونها، حتى أنه يتعجب من امرأة سواها «تعرف أن لون عينيه جميلتين»، قد «دفن حياته» في ذلك القبر، ويطالبها أن «تدفن موتها» في حياته وتجىء ولو لليلة. القصائد المكثفة والقصيرة والتي تشبه قبلات ناعمة، أو طعنات سكين مباغتة، تمتلك من الطاقة، أن تشعرك بهذا الألم، تلك المساحة الصغيرة التي لا هي حياة ولا هي موت، بل اشتياق لمستحيل، مستحيل يفوق «أن يدخل بحرا في زجاجة، أو يخرج حقولا من ثقب» فحتى هذا يمكنه فعله «إلا أن يكون في جوارها». بين اللاموت، اللاحياة، ستدهشك صورة كتلك، «لن أربح شيئا، لن أخسر شيئا، أعرف/تعرفين/أننى أركض خارج السباق»،أو تلك الطعنة في قصيدة لا تتعدى أربع أسطر «الطفل تعرفه أمه/أنتِ يعرفك الله/أنا مجهول للجميع». شاعر يمسك السراب، الماء، الذي يحاول أن يحتفظ به في قبضة اليد، لكنه لا يلبث أن ينفلت، ولا يلبث «سعد» أن يحاول مرة أخرى، يغترف غرفة بيده، لا يشرب، لا يظمأ، كذلك قارئه، لا يشرب، لا يظمأ، بل يستكمل فرجته،على رقته وهو يفلت الماء في كل مرة، يعرف ويتذكر عن كم مرة صرخت فيه، «ماذا يعطيك الدخان؟ها أنتِ ترين،لا الدخان ولا الحب يعطونى شيئا»، يجلد نفسه أحيانا، بسوط قداستها، فيخبرنا عن أمنيته، لو كانت مثله خائنة ودميمة، وطويلة العمر، لربما هان الأمر. وفي القسم الثاني من الديوان المصدر «بلا شىء يصدقني العزاء»، تتحول اللغة من الرقة إلى القسوة، دون أن تفقد عذوبتها، فهي تفضح منذ التصدير، تلك القشرة الزائفة، ليس فقط في كلمات العزاء، بل كل وهم، إلا وهمه بالاتيان بالسراب. مع تلك القسوة، يبدو أكثر قدرة على اكتشاف ذاته، ومفارقاته وتناقضاته الدقيقة «فهو يقسو مخافة القسوة،ويخون من رعب الخيانة، ويتسور بالشرور كحصن، وينام داخل قلبه باكيا، يشتهي حربا كونية،لا تترك سوى اثنين، منتصرا، وحيدا، أو ميتا لا يقاسى». مع القسم الثالث، تبدو الرؤية أكثر اتساعا وكشفا، بعد أن سكب «انسانيته المفرطة في البحر، دون ندم»، يدرك فى لحظة لا يكشفها إلا الشعر «أنه لم يختر اسمه، أو حرفته»، لا حرية إذن إلا في شىء واحد سيصر عليه حتى النهاية، أخطائه، فهي الشىء الوحيد الذي اختاره في كأس الحرية الفارغ. كفأس إبراهيم،التي تحطم الأصنام، كرجل مسن يملك من الغضب، ما يجعله ينتقم من كل هذا الزيف، كحكيم، يسخر من تلامذته، من حكمته، كسكير في حانة، يفضح ندماؤه، ينطلق سامي سعد، هاذيا بما لا يقال، بما كان يجب أن يقال، «فكوب اللبن الدافىء، أفسد أمعائه، كم تبدو الحياة مؤلمة، خارج ساحات القمامة»،حيث كل شىء معد سلفا «كالحياة التي هي مقدمة رديئة للفردوس». ربما يصل أو لا يصل لكنه يعرف،أن القصائد لن تموت،ربما يفعل الشاعر في ديوانه «الرقيق، الوحشي، الحكيم، الساخر من الحكمة، الذي يتحدى الموت، ويناجيه،ولم يعد مهتما بالسؤال عن نجاته».