لوحة زهرة الخشخاش لها ذكريات طريفة عندى أحببت أن تشاركونى فيها. فى البدء كنت أعلم بوجودها فى متحف «محمود خليل» دون أن أفكر فى زيارتها، لأننى - للأسف - لا أفهم جيدا فى الفن التشكيلى. لكنى رغم ذلك زرتها والسبب ستعرفونه حالا. يقول أصدقائى إن شخصيتى تشبه شخصية «بطوط»، ومثلما يحدث فى قصصه المصورة، أبدأ حزينا مُحبطا كارها للحياة، ثم يحدث شىء بسيط يجعلنى أشعر بالحماسة، وأقرر أن أستمتع بالحياة لأقصى حد، ثم ينتهى الأمر - غالبا - بكارثة. بالفعل كنت أمشى هذه الأيام منحنى القامة، متدلى الكتفين، مُطفأ العينين من فرط الإحباط، فإذا بأخى الأكبر «أحمد» يهدينى - فى لحظة حنان أبوى مفاجئة - كاسيت صغيراً له سماعة سونى. وجدت صوته عاليا ونقيا فنبهنى أن السماعة أهم من الكاسيت. لاحظ أن هذه الأحداث كانت منذ عشر سنوات قبل تقنيات الصوت الحديثة. وهكذا امتلأت حماسة للحياة: لمعت عيناى وارتفع كتفاى واستقامت قامتى. وبدأت أخطط للقيام برحلات مستمتعا بالكاسيت. اتصلت بخالى «طارق نصار»، وهو رجل أعتقد - لسبب مجهول - أنه جاء العالم لإسعادى والترفيه عنى!.. أخبرته فى خطورة بأن (أيمن القديم) البائس قد انتهى إلى الأبد، وحل محله (أيمن جديد) يعرف كيف يستمتع بحياته. قلت له فى شبه تأنيب: كيف توجد لوحة ل«فان جوخ» ولم أشاهدها حتى الآن!!. وأخبرته أننى سآتى إليه بالقطار غدا وعليه انتظارى بسيارته. استمع إلىّ فى صمت، لأن الأيام قد علمته أن يستسلم لنزواتى على أمل أن تنتهى بسرعة وأعود إلى حالة الإحباط الأولى. ............. فى المحطة شاهدت خالى واقفا بقامته الطويلة مستسلما لأقداره. ذهبنا للمتحف وشاهدنا لوحة زهرة الخشخاش معا، ثم قلت لخالى فى لحظة صدق نادرة: «لو كنت مُدّعيا فما أسهل أن أُبدى انبهارى بهذه اللوحة لمجرد أن راسمها فان جوخ، لكنى بصراحة عاجز عن الإعجاب بها، إنها تشبه، فى رأيى، اللوحات التى تُباع على الرصيف بعشرين جنيها، ولا تساوى فى ذمتى «تلاتة أبيض!». ضحك خالى وكأنه ينتظر أن يسمع هذا التعليق، خرجنا من المتحف وقد فقدت حماستى، ورفضت أن يُوصلنى للمحطة إشفاقا عليه من الزحام، ركبت المترو فوجدته مكتظا جدا، موجات بشرية تقتلعنى من موضعى. كانت السماعة متدلية حول عنقى فتحسست جيبى بغريزة غامضة، لكنى – للأسف - لم أجد الكاسيت. نشلوه منى أثناء الزحام!! شعرت بخيبة أمل مريرة وتذكرت حديث أخى عن أهمية السماعة، فقلت بصوت عال: «يا جماعة اللى أخد الكاسيت مش حيستفيد منه من غير السماعة، يعنى لا هو استفاد ولا أنا استفدت!!». شرعت أهز رأسى فى أسف، والناس حولى يهزون رؤوسهم فى أسف، ثم هجمت موجة بشرية أخرى أثناء نزولى، لأكتشف على رصيف المترو المفاجأة القاسية: النشّال استمع لنصيحتى وسرق السماعة أيضا ليحصل على الجهاز كاملا!!