كنت أقرأ حديثاً صحفياً لنجل المشير عامر فى جريدة «الوفد» وفجأة تذكرت «محمد على»!!.. والعلاقة بين الحديث وما به من جرأة لشاهد عيان على حادثة من أهم حوادث نصف القرن الماضى وبين «محمد على» هى فى وجود «ورقة» أو عدم وجود «ورقة».. والورقة هنا هى «الوثيقة».. والفرق بين الأحداث التاريخية ذات الوثائق، أى «الموثقة»، والأخرى غير الموثقة كبير جداً.. وأظن أنه بالنسبة لدارسى التاريخ الحديث ستكون السنوات ما بعد يوليو 1952، تاريخياً، مشكلة حقيقية فى إخراج بحث حقيقى ذى قيمة تصدق ويعتد بها، بينما الباحث فى سنوات ما قبل ذلك التاريخ يمكنه أن يخرج بنتائج هائلة من الجودة والأهمية.. فى عام 1828 أنشأ «محمد على» «الدفترخانة المصرية» أو دار المحفوظات، وذلك لحفظ وثائق الحكومة المهمة والأوامر والتقارير والرسائل إلى آخره، وكان هدفه هو تحقيق إدارة حكومية سليمة وقوية.. وفى مقدمة أحد الكتب الوثائقية عن «دولة محمد على» كتب د. صابر عرب، رئيس دار الوثائق المصرية، أنه لا يعتقد أن محمد على حينما أنشأ الدفترخانة المصرية كان يستهدف جمع وتنظيم إدارة الوثائق من أجل أن تكون مصدراً للكتابة التاريخية، لكنه بخبرته الإدارية اعتقد أن السيطرة على الوثائق شىء مهم جداً لضبط الإدارة فى الدولة، ولم يكن يعلم أنه يقدم خدمة جليلة للتاريخ المصرى، وأن هذه الدار حافظت على ذاكرة الأمة المصرية التاريخية.. و«أكمل أنا»: حتى عام 1952.. والحمد لله على كدة. لذلك خطر على ذهنى «محمد على» وأنا أقرأ حديث جمال عامر الذى حكى بمرارة شديدة لحظات الانهيار التى أعقبت هزيمة 1967، ورأيه فى أن مسؤوليتها لا تقع على المشير إطلاقاً، وأنها كلها تقع على عاتق عبدالناصر الذى انفرد بقرار الحرب وانفرد بتصديق مؤامرة انتظار الضربة الأولى رغم تحذير الفريق صدقى محمود، قائد الطيران، والمشير وباقى القادة، وبالفعل كانت الضربة الأولى هى الأخيرة وأتت على القوات الجوية المصرية ثم على الجيش بأكمله.. ويقول أيضاً إن عبدالناصر صدق بلاغ السوفيت الكاذب بوجود حشود عسكرية إسرائيلية على الحدود السورية، وأن الفريق فوزى والفريق عبدالمنعم رياض سافرا وشاهدا الحدود بنفسيهما ولم يجدا حشوداً.. وفى نفس الوقت يقول جمال عامر إن عمره وقت النكسة كان سبعة عشر عاماً، وهذا معناه أن أغلب هذه المعلومات كانت مسموعة من عدة أطراف لها علاقة أكيدة بالحدث، وربما من والده شخصياً، لكنه بالتأكيد لم يكن شاهداً عليها بنفسه.. كذلك لا توجد ورقة واحدة تم تسجيل اجتماع من كل هذه الاجتماعات التى سمعنا وسنظل نسمع عنها بها.. ولا توجد ورقة بالبلاغ الكاذب الذى صوره لنا السوفيت سواء بوجود حشود عسكرية على حدود سوريا أو بانتظار الضربة الأولى، وكذلك اعتراض القيادات العسكرية، وأظن أنه لا توجد تقارير موثقة عن أحداث الهزيمة يوماً بيوم ولا عن عدد شهداء مصر من الشباب يوم الخامس من يونيو، وكلها معلومات مبنية على أقوال، ولا أفهم حتى يومنا هذا لماذا تجاهلت قيادة الثورة التسجيل على الوثائق وحفظ الأحداث على أوراق يتم حفظها مثل ما كان يحدث فى العهد البائد.. عموماً ستبقى أحداث تاريخنا الحديث مرهونة بشهود العيان.. ومشكلة شاهد العيان أنه ربما يكون ذا اتجاه معارض أو مؤيد.. ربما يكون قد شاهد بعضاً من الحدث وسمع الباقى من آخرين أو ربما يدلى برأيه بعد سنوات طويلة تهتز فيها الذاكرة وتتداخل التواريخ.. ولكن الشىء الحقيقى جداً فى هذا الحديث هو رؤيته لوالده وهو محاط برجال مسلحين يسحبونه بالقوة إلى خارج منزله وهو يقاوم بشدة وعنف، ويرفض ركوب عربة إسعاف، وعندما ركب العربة المرسيدس بالقوة وهرولت الزوجة والأبناء والبنات لرؤيته لآخر مرة، ضرب الشقيق الأصغر زجاج العربة بعصا فتهشم ونظر المشير لأبنائه لآخر مرة وبعد يومين مات المشير.. الغريب فى الموضوع أن ابن المشير اسمه «جمال» وابن عبدالناصر اسمه «عبدالحكيم».. والمثل يقول «إن جاك الطوفان.. حط ولدك تحت رجليك».