على مدى العقود الثلاثة الماضية طبقت ما يزيد على مائة وعشرين دولة فى مختلف أنحاء العالم برامج للخصخصة، انتقلت بمقتضاها أصول تزيد قيمتها على ألف ومائتى مليار دولار من الملكية العامة إلى القطاع الخاص. ويمكن التمييز بين ثلاث مجموعات من الدول فى تبنيها للخصخصة، أولها دول صناعية متقدمة بدأتها فى الثمانينيات من القرن الماضى، وتأتى فى مقدمتها بريطانيا ونيوزيلندا، وثانيها دول وسط وشرق أوروبا بعد تفكك الاتحاد السوفيتى وانهيار نظامه الاقتصادى السائد فى تلك المنطقة، أما ثالثها فهى الدول النامية فى أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا. وتكاد تشترك أغلب الدول فى دوافعها إلى تطبيق برامج الخصخصة، ومن أهمها: السعى لتقديم خدمة أفضل وأكثر تنافسية للجمهور، استهداف تحقيق قيمة مضافة وكفاءة أعلى من خلال الإدارة غير الحكومية بعيداً عن أى شبهة لتحقيق أغراض سياسية، تخفيف العبء عن الموازنة العامة للدولة «سواء من خلال التخلص من خسائر بعض المنشآت، أو بعدم الحاجة لتمويل التحديثات والتوسعات، أو من خلال الاستفادة من عوائد الخصخصة»، الاستجابة للتطورات الفنية والتقنية المتسارعة فى بعض القطاعات، التى تعجز الإدارة الحكومية عن ملاحقتها.. إلخ. أما عوائد الخصخصة، فإن استخداماتها تخضع لظروف كل دولة، وإن كانت لا تخرج عن واحدة أو أكثر مما يلى: تسديد ديون على الخزانة العامة، تخفيض العجز فى الموازنة، أو تطبيق سياسات اجتماعية تتمتع بالأولوية «مثل دعم صناديق التأمينات الاجتماعية أو التوسع فى تأهيل وتدريب المتعطلين عن العمل أو تطوير القطاعين الصحى أو التعليمى ..». ومثل أى تجربة إنسانية، تتباين نتائج مبادرات الخصخصة من دولة لأخرى، وأحياناً من مرحلة لأخرى داخل نفس الدولة. ويتضح من متابعة التجارب الدولية المتعددة أن ازدياد فرص نجاح برامج الخصخصة يعتمد على عوامل عدة وإن كان من أهمها: ■ البدء بأصول أو منشآت فى قطاعات تنافسية وليس كيانات تتمتع بأوضاع احتكارية. ■ وجود بناء مؤسسى يضمن النزاهة والتنافسية وحماية حقوق مختلف الأطراف، وذلك قبل القيام بعمليات الخصخصة «مثل الأجهزة أو الوكالات المختصة بتنظيم قطاع معين كالاتصالات أو حماية المستهلك أو دعم المنافسة ومواجهة الممارسات الاحتكارية ..». ■ تبنى برامج اتصال مكثفة لتوعية الجماهير بأهداف برنامج الخصخصة وآلياته، مع الالتزام بالشفافية والمصداقية فى جميع خطوات وإجراءات تنفيذ البرنامج. أساليب الخصخصة شهدت التجارب العالمية للخصخصة- بمفهومها الواسع، «الذى يتضمن البيع أو حق الإدارة أو التشغيل لجهة غير حكومية»- عدداً من الأساليب، التى يمكن تلخيصها فيما يلى: ■ بيع الأسهم أو الأصول لأطراف خارجية من خلال مزايدة تنافسية أو التفاوض المباشر، ومن ذلك طرح الشركات للاكتتاب العام من خلال بورصات الأوراق المالية. وتأتى التصفية للمنشأة كإحدى صيغ بيع الأصول. ■ التخارج الجزئى للمال العام من الملكية، وذلك فى صورة بيع جزئى لأسهم رأس المال أو الدخول فى مشاركة «joint venture». ■ تمليك العاملين والإدارة للمنشأة. ■ التعاقد على إعطاء حق الإدارة أو التشغيل أو حق الامتياز أو الترخيص لطرف خاص. هذا وقد ابتكرت بعض الدول، خاصة فى وسط وشرق أوروبا ما يعرف بنظام القسائم «vouchers» كأحد الأساليب لنقل ملكية المنشآت العامة للقطاع الخاص من خلال منح قطاعات واسعة من الشعب قسائم- وفقاً لقواعد معينة- يمكن لمن يحصل عليها مبادلتها بأسهم فى الشركات، التى يتم طرحها للبيع «إما مجاناً أو بعد سداد قيمة رمزية تقل كثيراً عن القيمة السوقية لتلك الأسهم». وكان هدف الحكومات من وراء نظام القسائم المشار إليه الإسراع من وتيرة الخصخصة وتوزيع ثمارها على أوسع نطاق على الشعب بطريقة مباشرة، إضافة إلى خلق الوعى الاستثمارى لدى طوائف متعددة من المواطنين وتنشيط سوق المال. إلا إنه وبعد مرور سنوات عدة على تطبيق هذه التجربة تتباين الآراء حول مدى نجاحها وجدواها، حيث يسفر الواقع عن أن قطاعات لا يستهان بها من المواطنين لم يكن لديها الوعى الكافى لاختيار أفضل الشركات للمساهمة بها، وبالتالى تعرضت للخسارة، أو تنازلت عن الأسهم أو القسائم بثمن بخس لطائفة من المستثمرين المحترفين الذين حققوا أرباحاً طائلة على حساب المواطنين البسطاء.. بل إن فى دولة مثل روسيا تشير التقديرات إلى أن 5% من إجمالى القسائم الموزعة لم يتم استخدامها أبداً! ولا يخفى أن مثل هذا النظام لا يحقق عوائد مالية تذكر للدولة لتنفيذ برامجها الإصلاحية ومشروعاتها الاجتماعية، كما أن التفتيت الشديد لملكية المنشآت، التى انتقلت ملكية أسهمها وفق هذا النظام، وفى ظل غياب ثقافة الاستثمار والحوكمة نشأ عنه وجود إدارات للشركات وضعت نفسها فوق مستوى المحاسبة والمساءلة من قبل المساهمين. خبير الاستثمار والتطوير المؤسسى