جرس الباب يدق بإلحاح لكننى أتجاهله. لا يوجد شىء يغرينى أن أقوم من مقعدى. منذ عهد سحيق كففت أن أنتظر خبرا سعيدا. ذهب زمن الأصدقاء والسهرات الممتعة. آخر مرة أيقظنى من النوم رجل لم أره من قبل ويريد منى أن أصحبه لأن زوجته ميتة!. الباب لم يزل يدق وابنى العبيط يهرول مسرعا آملا فى شىء مبهج. حوار مبهم يدور عند الباب ثم جاء مرتبكا شاحبا: - بابا. واحد عايزك. - مين؟ قال الولد فى رعب: - بيقول إنه الموت يا بابا. هنا قفزت من مقعدى متهللا، وأسرعت إلى الصالة وأنا أردد عبارات من قبيل: يا مليون مرحبا. خطوة عزيزة. شرّفت وآنست. كنت فين من زمان. لم يفتنى أن الموت بدا مترددا. لم يعتد على الأرجح هذا الاستقبال الحافل. الولد وقف فى فضول وقد بدأ الأمر يروق له. اتفضل يا باشا. يا ميت مرحبا. فى الصالون أصررت أن يجلس الموت على أفضل مقعد. وطلبت "شاى" وقهوة وحاجة ساقعة. جلس مترددا وكأنه ينوى النهوض بعد قليل، قال بصوت متلعثم: - الحقيقة إنى اتعودت على استقبال غير كده، لكن ده بيسهّل مهمتى. - إيه مهمته يا بابا؟. سألنى الولد العبيط فقلت: - يا سلام!! قلت وأنا أفرك كفى مستمتعا: أحلى حاجة فى الدنيا يا ابنى، الراحة اللى ما بعدها راحة. - أشكرك، رد الموت متأدباً. - يعنى مثلاً ربنا يرحمك من قراءة ممتاز القط كل سبت، بالذمة دى قليلة؟ - أبداً والله، فى دى عندك حق. - بس تعرف إنى واخد على خاطرى منك. - ليه بس؟ - لأنك اتأخرت أوى. ده أنا مشتاق. مشتاق أوى. - غريبة. أول واحد يقول لى الكلام ده. - عُبط ومش فاهمين حاجة. اسألنى أنا. الدنيا شقا ووجع دماغ. تنزل من البيت تلاقى مجارى، تطسك الشمس فى نافوخك. تروح الشغل تطلع عينك. ده أصلا لو لقيت شغل. بالذمة دى عيشة دى؟ - لا طبعاً. - لو عندك عربية تتخبط، لو معندكش عربية تتبهدل، والدنيا ولعة، والجو رطوبة، تصدق بالله أنا عشمى إن ربنا يدخّل المصريين الجنة من غير حساب، هو اللى شفناه قليل؟ - قليل إزاى بس! - إلا بالمناسبة، زبانية جهنم اللى سارقينا وكاتمين على نَفَسنا مش حتزورهم بقى؟ - كله بأوانه ما تستعجلش. - تعرف بجد؟. أنا مش باجاملك. إنت الوحيد فى البلد دى اللى معندوش خيار وفقوس. يعنى الكل فى الهوا سوا. - بس مين يعتبر!! - واللى مفرحنى إنهم حيسيبوا العز والأبهة.. يبقى بالذمة يزعلوا ولا ما يزعلوش؟ - يزعلوا طبعا. - لكن أنا يا مولاى كما خلقتنى!. من التراب إلى التراب. بالعكس الموت حيرحمنى من الشقا، صح؟ - صح وألف صح. - يبقوا يخلوا المليارات اللى لموها تنفعهم. - يبلوها ويشربوا ميتها. ولا حيعملوا بيها حاجة. - مش باقولك إنت راجل طيب. الغنى عندك زى الفقير والوزير زى الغفير. كله حيتحلل بإذن واحد أحد. - البقاء لله. - ونعم بالله، تصدق بإيه، البنى آدم ده أهبل إنه يفرح ويتغر وينجعر. وفى الآخر حينتن وتبقى ريحته زى الفار الميت. - بس مين يتعظ؟ - واللى مفرحنى إن نهايتهم قربت.. ده الصغير فيهم النغنوغ معدى السبعين من زمن. - البقاء لله. - احكيلى بيعملوا إيه لما يشوفوك، بيلطموا؟ بيحاولوا يرشوك؟ - دى أسرار الشغل، بس أكيد ما بيفرحوش زيك. - هو أنا فرحان بعقل! - ممكن بقى تسيبنى أخلص شغلى؟ - ودى عاوزه استئذان؟.. خلّص يا راجل، خلّص. - وإنت إدتنى فرصة، أعوذ بالله، إنت رغاى بشكل!. - معلش، من فرحتى، يلّا أنا جاهز. توكل على الله(شهيق عميق) أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. سامحنى يا رب (ينزل الستار).