على سرير العافية يرقد فى باريس أخى د. محمد السيد سعيد، ترافقه زوجة كريمة، يصارع مرضاً لا يستطيع أن يصارعه بهذا القدر من الصبر إلا الشجعان المؤمنون. عام 1989 رأيته للمرة الأولى فى المقر القديم للمنظمة العربية لحقوق الإنسان فى ميدان أسوان بالعجوزة، وهو المقر الضخم الذى كانت المنظمة المصرية تشغل غرفة واحدة منه على سبيل الاستضافة، وكان ذلك بعد أن تم انتخابه لعضوية مجلس الأمناء. نحيل وأسمر، هو للفنانين أقرب منه إلى علماء السياسة، يُميّزه ليس فقط أفكاره الجريئة وعقله الموسوعى، ولكن أيضاً صوت خفيض رقيق، لا يرتفع إلا إن انتُهكت المبادئ، أو مُسَّت الكرامة، ومع ذلك فهو إلى الحِلْم والتماس الأعذار أقرب، وإلى العفو أميل منه إلى الانتقام. فى الأول من أغسطس 1989 أضرب عمال الحديد والصلب واعتصموا داخل مصنعهم، ولم يكن الزمان كالزمان ولا الحال مثل الحال، فقاد وزير الداخلية اللواء زكى بدر بنفسه عملية اقتحام المصنع ونقلت عنه الصحف قوله: «إن مات 25 عاملاً تكون العملية ناجحة»، ولكن العملية على كل حال انتهت بمصرع عامل وإصابة العشرات، وألقى القبض على أعداد كبيرة من العمال، نُكّل بهم وعُذّبوا عذاباً فوق طاقة البشر. كان هذا اختباراً للمنظمة الوليدة، وقدرتها على الدفاع عن حقوق الإنسان، ودُعى المكتب التنفيذى إلى اجتماع عاجل، انتهى بإعلان إدانة المنظمة المصرية لعملية الاقتحام، وكتب محمد السيد سعيد بلغته القوية الواضحة، وبلاغته المعروفة البيان الصحفى الذى أصدرته المنظمة منددة بما حدث للعمال من جرائم ومطالبة صراحة بمحاكمة اللواء زكى بدر. وفى اليوم التالى قُبض على محمد السيد سعيد وأمير سالم، عضوى مجلس الأمناء، وآخرين بتهمه الانضمام إلى تنظيم سرى يهدف إلى قلب نظام الحكم!!. وإن أَنْسَ فلا أنسى آثار التعذيب التى عاينتها بنفسى على جسد كل من قُبض عليه، إلى الدرجة التى لم يستطع معها أمير سالم الجلوس أمام وكيل النيابة المحقق من شدة ما تعرض له من تعذيب، وحمل الجنود المرحوم هشام مبارك إلى غرفة التحقيق بعد أن عجز عن السير إليها، وأشحت بوجهى فلم أستطع النظر إلى الكدمات التى أحدثتها أحذية الجنود فى جسد مدحت الزاهد، ووسط أنات التعذيب كان الجميع يردد جملة واحدة: «أنقذوا محمد السيد سعيد». كان الجلادون قد تفننوا فى تعذيبه انتقاماً مما كتب وترهيباً للمنظمة الحقوقية الوليدة، ولم ينقذه إلا زيارة عاجلة قام بها النقيب مكرم محمد أحمد- نقيب الصحفيين وقتها- إلى السجن، والذى ما إن عاين آثار التعذيب على جسد محمد الناحل حتى صرخ من الغضب، وهدد وتوعد، فرُفع العذاب عنه، ثم أُطلق سراحه مع الجميع بعد حملة ناجحة أثبتت فيها المنظمة الوليدة أنها أصلب عوداً مما توقع الكثيرون، والتقيته فور الإفراج عنه ودُهشت فلم يكن يحمل أى ضغينة ضد مَنْ عذبوه، ولم ير فيما حدث له إلا ثمناً بخساً لموقف شجاع. ويوم قرر بهى الدين حسن عام 1993 التخلى عن موقعه كأمين عام للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان، جزعت من ذلك القرار، فقد كان «بهى»- بالنسبة لى على الأقل- صمام الأمان القادر على ضبط تفاعلات ذلك الكيان الذى أصبح كبيرا، وذهبت إلى محمد السيد سعيد أطلب منه أن يقنع «بهى» بالتراجع عن تلك الفكرة المجنونة وأوضح له مخاطر اعتزاله للمنظمة، وبهدوء المفكر، وثقة المعلم راح يشرح لى أهمية تداول السلطة وتجديد الدماء، وقال لى ضاحكاً: «حتى لو أدى قرار بهى إلى انهيار المنظمة فهذا أفضل لها من أن يبقى أمينا عاما إلى الأبد»، وسأل مستنكراً: كيف ندعو إلى تداول السلطة ونحن نرفضها؟ وكيف نستخدم ذات التعبيرات التى يستخدمها من يرغبون فى احتكار مقاعد الحكم فلا يزحزحهم عنها إلا الموت أو العجز أو الانقلاب العسكرى؟ وعبر عشرين عاماً، هى عمر علاقتى به، كانت أفعال الرجل تطابق أقواله، وقدم بسلوكه نموذجاً فذاً وموحياً لذلك التطابق، واستطاع ببساطة مدهشه أن يظل على علاقة وثيقة حتى بمن اختلف معهم فى الرأى، وقدم لى شخصيا نموذجا على إمكانية ليس فقط التعايش ولكن حتى بناء الصداقة بين المختلفين فى الرأى. وأُشهد الله أننى لم أسمع منه كلمة سوء فى حق أحد، حتى هؤلاء الذين تطاولوا عليه، كان يكتفى بهزة كتف وزمة شفة وابتسامة مدهشة وجملة واحدة: «مش عارف بيعملوا كده ليه؟»!. أخى محمد: اصْمد، قاتل المرض وانتصر عليه، عدْ إلينا فأعداؤك قبل أصدقائك محتاجون إليك.. إلى حكمتك، ابتسامتك، ونقاء سريرتك، فقد شوّش الزمان علينا، وسرق ابتسامتنا، وعكّر سرائرنا. محمد السيد سعيد: أُسعدت صباحاً حين تُشرق الشمس، وعِمت مساءً حين يُقبل الليل، والسلام عليك فى كل وقت وحين.