يراهن الكثير من دور النشر الخاصة على الكتابة الشابة، وتدفع بمئات الكتب كل عام إلى أرفف المكتبات، لتجنى من ورائها أرباحا طائلة، وسحبت البساط من تحت أقدام دور النشر الحكومية. فى الماضى، ومن خلال عدة سلاسل أصدرتها الهيئات التابعة لوزارة الثقافة قدم الناشر الحكومى الكثير من الأسماء الشابة، التى التقطتها دور النشر الخاصة لتصنع منها نجوما فى عالم الكتب، وأبرز هذه السلاسل «إبداعات أدبية» التى انطلقت فى 1995 عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وسلسلة الكتاب الأول التى يصدرها المجلس الأعلى للثقافة وسلسلة «كتابات جديدة» التى تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب. وفى ظل توسع دور النشر الخاصة فى الرهان على أدب الشباب، توارى الناشر الحكومى، وصارت إصدارات هذه السلاسل مجرد أشباح تظهر على الأرصفة مع بائعى الكتب لتختفى سريعا دون أى صدى. يقول الروائى محمد صلاح العزب: تقدمت بمجموعتى القصصية «لونه أزرق بطريقة محزنة» التى نشرت فى عام 2003، إلى سلسلة (الكتاب الأول) قبلها بثلاث سنوات، وفى ذلك الوقت لم تكن هناك دور نشر خاصة تتحمس للشباب. وأضاف:»لوقت طويل كان النشر الحكومى بمثابة صك اعتراف بموهبة الكاتب، لكن هذا الصك يدفع ثمنه الكاتب، انتظارا طويلا دون رد، بالإضافة إلى سوء المعاملة، وضعف المقابل المادى». ووصف العزب أوضاع سلاسل الشباب بأجهزة النشر الحكومية قائلا: «معظمها يعانى الفشل الشديد، فلا أذكر من كل هذه الإصدارات أن كتابا واحدا نجح فى الوصول إلى الناس». وعلى الرغم من أنه يرى بعض هذه السلاسل «ماتت نهائيا» وضرب مثلا بسلسلة «كتابات جديدة» عن الهيئة العامة للكتاب، أكد أن البعض تطور بطيئا، وقال: «هناك محاولة لتطوير الكتاب على مستوى الطباعة والإخراج الفنى، مثلما حدث مع سلسلة إبداعات أدبية لكن سرعان ما التهمتها المحسوبية فجاءت المضامين رديئة». واستثنى من هذا الفشل تلك السلاسل التى «يديرها أشخاص لهم عقلية مستنيرة» على حد تعبيره، وقال: «الإصلاح فى هذه السلاسل مرتبط بأشخاص القائمين عليها». ورفض الكاتب أحمد الفخرانى نشر ديوانه الأول «فالس المنامات» فى سلسلة «إبداعات أدبية»، بعد أن جاءته الموافقة على النشر متأخرة 5 أعوام كاملة كان قد نشر فيها ديوان شعر «ديكورات بسيطة» وبدأ الإعداد لكتابه الثانى «فى كل قلب حكاية». ويقول : «كانت السلسلة فى هذا الوقت المنفذ الأهم لنشر الأعمال الشابة خصوصا أن كثيرا من دور النشر ترفض التعامل مع الأدب الجديد». استكمل : «بعد انتظار طال لخمس سنوات نسيت خلالها أمر الديوان فوجئت بأحد موظفى الهيئة يتصل بى ليبلغنى أن ديوانى تمت الموافقة عليه وأنه جاهز للنشر». ورفض فخرانى نشر كتابه وبرر ذلك بقوله: «لا يمكن أن أن أنشر تجربة تجاوزتها بخمسة أعوام كاملة، فالكاتب المحترم لا يمكن أن يظل مكانه خمسة أعوام». واتفق الفخرانى مع كل الانتقادات التى وجهها العزب لدور النشر الحكومية وتساءل: «أين تذهب كتب الهيئات الحكومية، لماذا لا نراها فى المكتبات الجديدة والمنافذ التى أصبحت تقود دفة الانتشار، هل توزع حقا أم أنها ترص فى المخازن؟». وخلص الفخرانى إلى أن هذه السلاسل فى طريقها للانقراض، وقال: «الثقافة بالأساس مستقلة وليست حكومية، لان أى شى حكومى تتبعه رقابة وقمع وفساد». وفى مواجهة هذا الهجوم الشرس من الكتاب الشباب أبدى الروائى إبراهيم عبدالمجيد تعاطفا مع سلاسل النشر الحكومى للشباب، فأكد: «تقدم الكثير من الكتب الجيدة، لكن ينقصها الدعاية».وأوضح: «معظم دور النشر الخاصة تقيم دعاية كبيرة لكتبها، تشمل حفلات توقيع، ومؤتمرات لتقديم الكتاب، بالإضافة إلى أنها ترسل بنسخ للنقاد والصحفيين ليكتبوا عنها، فيما لا تعترف الهيئات الحكومية بمثل هذا النوع من الإجراءات». وأشار عبدالمجيد الذى أسس سلسلة «كتابات جديدة» التى تصدر عن الهيئة العامة للكتاب وأشرف عليها فى الفترة من 1994 وحتى 2000 إلى كثرة الكتب الصادرة عن الجهات الحكومية، «فكل سلسلة تصدر بشكل شهرى، وهو عدد كبير نسبة لما تصدره دور النشر الخاصة». من جانبه نفى المشرف العام على سلاسل الهيئة العامة لقصور الثقافة جمال العسكرى أن تكون السلاسل الحكومية فى طريقها للانقراض، قائلا: «لدينا كثير من الكتب حصلت على جوائز وخصوصا فى الفترة الأخيرة، وفى سلاسل الشباب فازت رواية مواقيت التعرى للكاتب هدرا جرجس بجائزة نجيب ساويرس الأدبية وهذا معناه أن السلسلة موجودة». ولفت إلى أن سلاسل الهيئة ليست كدور النشر الخاصة، وقال: «نحن مؤسسة حكومية تخدم 80 مليون مواطن مصرى، وكوننا نتعامل مع هذه المساحة العريضة يعنى أيضا أن نسبة الأعمال التى لا تصل للإجادة التامة ستكون أكبر». ورد على الاتهام الموجه لسلسلة إبداعات أدبية بأن الكثير من كتبها يعانى ضعفا من حيث المضمون، قائلا : «لا يمكن أن نشترط على كتابات شابة أن تبلغ حد التمام، ويكفينا أن نخرج هذه الكتب إلى الضوء لتتلقاها الأصوات النقدية وتفرزها». وتابع: «استطعنا فى الآونة الأخيرة أن ننتج كتبا تنافس الشكل الفنى لما تنتجه دور النشر الخاصة». وأكد أن الكتب الرديئة لا تخص النشر الحكومى وحده قائلا : «نسبة الإصدارات التى تقدمها دور النشر الخاصة منها الكثير ردىء وهذا لا يخص النشر الحكومى وحده». وحول ضعف توزيع الكتب أوضح أن الهيئة تتبنى سياسة جديدة تعتمد بعض الأساليب التى ابتدعتها دور النشر المستقلة لتسويق الكتب، وقال: «ننوى مواكبة طرق التوزيع والدعاية الجديدة للكتب، عن طريق إقامة حفلات توقيع ومناقشات للكتب، وإن كان ذلك لا يزال مرتبطا بأنشطة الهيئة الرسمية». لكن حتى تلك الأعمال القليلة التى أنتجها الناشر الحكومى ولاقت صدى فقد عانت من نفس المرارات، فالكاتب الشاب هدرا جرجس صاحب رواية «مواقيت التعرى» التى حازت جائزة ساويرس الأدبية العام الماضى قص علينا حكايته مع النشر الحكومى، وقال: «روايتى ظلت 3 سنوات لكى تعرض على لجنة قراءة بسلسلة إبداعات أدبية حتى عرضتها على الأستاذ مدحت العيسوى فعرضها بنفسه على لجنة القراءة». ومن قبل سلسلة إبداعات أدبية حاول هدرا نشر روايته فى سلسلة كتابات جديدة بالهيئة العامة للكتاب، وانتظر سنتين دون رد. وعلى الرغم من ذلك يرى هدرا أن تجربته مع النشر الحكومى ناجحة جدا. وتابع: «النشر الاحترافى الوحيد فى مصر هو النشر الحكومى، فرغم ما تعانيه هذه المؤسسات لكن لديها لجان قراءة، وتطبع الكتب بهدف غير ربحى بالاضافة إلى قليل من دور النشر الخاصة التى يمكن أن يطلق عليها مؤسسات». واستطرد: «هذا لا ينفى أزمات أجهزة النشر الحكومى، سواء من جهة فرض محاذير رقابية أو طول انتظار المبدعين دون رد». وأضاف لانتقاداته سوء لجان القراءة موضحا: «هذه اللجان تؤدى عملها ببطء تحولت معه السلاسل الحكومية إلى طابور طويل، وعليك الانتظار فى دور لا معنى له، فلا يوجد فرز حقيقى للأعمال التى تصدرها السلاسل، الأمر الذى ينتج كتبا ليست على مستوى فنى معقول». وعلى العكس من العزب والفخرانى يرى هدرا أن سلاسل النشر الحكومية ما زالت قادرة على تصحيح أوضاعها، وقال: «إذا أزيلت هذه المعوقات ستكتسح دور النشر الحكومية سوق النشر فى العالم العربى، لأنها تتمتع بقوة توزيعية عالية، فمنافذها فى كل أنحاء الجمهورية». أما النشر الخاص فلا يتمتع بمصداقية لدى هدرا الذى برر ذلك برفضه فكرة: «أن من يريد أن ينشر يدفع من جيبه الخاص». وردّ هدرا كل المزايا التسويقية التى حققتها دور النشر الخاصة إلى أن «الناشر الخاص تاجر يستفيد من تسويق سلعته»، أما الناشر الحكومى -والكلام هنا على لسان هدرا- فلا يروج لخدمة يقدمها، لأن هذه الكتب رصدت لها ميزانيات تصرف كلها على الطبع والتوزيع ولا يوجد اثر لفكرة الدعاية. وأكد: «هذا دفع الكثير من جيل الشباب للاتجاه إلى النشر الخاص حتى وإن كانوا سيدفعون مقابل نشر كتبهم». مسؤول سلسلة «الكتاب الأول» بالمجلس الأعلى للثقافة منتصر القفاش يرى أن ما يميز السلسلة تحديدا أنها ما زالت حريصة على نشر الشعر والمجموعات القصصية وهى أنواع أدبية تعانى قلة اهتمام الناشرين بها، وقال: «لا يخفى على المتابع لحركة النشر أن هناك دورا ترفض نشر الشعر من الأساس لأنه لا يبيع». وأضاف : «السلسلة لا تقتصر فقط على الإبداع، لكنها تنشر الدراسات النقدية الأدبية وهى أيضا ليست محل اهتمام من النشر الخاص». أما عن القيمة الفنية للأعمال التى تنشر، فأوضح القفاش: «إذا كنا نفتقد شيئا فهو التقييم النقدى للأعمال الأدبية والذى أصبح يقتصر على أخبار صحفية قصيرة وتغطية الندوات دون المقالات النقدية الجادة». واعترف القفاش بأن التطور فى سلاسل النشر الحكومى مرتبط بشخص القائم عليها، وقال: «الأمر يرتبط برغبة المسؤول فى تقديم شىء جيد»، وشرح: «هناك نوعان من القائمين على سلاسل النشر وخصوصا تلك التى تنشر أعمال الشباب، أولهما من يرى السلسلة جزءا من إبداعه وتكملة مهمة لمشروعه الفكرى، والنوع الثانى يتعامل مع الأمر برمته كوظيفة روتينية».