لا تخافوا ولا تحزنوا ولا تهللوا ولا تصيحوا، الصعيد قادر على طحن 65 ألف طن قمح فاسد بأسنانه الغارقة فى سواد الأيام، والإكمال بابتلاع مياه الترع، ثم التجشؤ كأن شيئاً لم يحدث. ولا بأس إن جاء الموت فى الحقول، أو على حواف الدروب، أو تحت أنقاض البنايات التى شيدوها بسواعدهم، أو الاحتراق فى قطار، رضوا بالحشر بين جدرانه الحديدية الصدئة كأنهم بضائع رديئة أو أجولة دقيق فاسد، أو الغرق فى بحار الظالمين ومن والاهم، أو الدهس على أسفلت صُنع خصيصا ليشرب من دمهم.. فللصعيد رب يحميه. لا تغرّكم تلك التقاطيع القاسية، التى أنضجتها الشمس الحارقة، ففى الجوف تنام المصائب ولا تطفو إلا حين يهن العظم وينكسر الظهر. لا تخدعكم تلك العيون التى تدخر الدموع لأوقات أشد بؤساً، رغم أنها على موعد يومى مع الكوارث والفواجع. لا تستسلموا لهذه الوجوه التى حفر الحزن أخاديده العميقة على قسماتها، فهؤلاء طُعم سهل لمن أراد أن يلهو طوال الليل، ويملأ فى الصباح براميل من دمائهم المسروقة فى سطوع الشمس، هم طُعم جيد لمن أراد تجريب فساده، هم من تضيق بهم الحقول وتقسو عليهم الجبال، فيركبون الأمواج وأسطح القطارات، ليكسبوا فيضا من الحزن، أو يمتوا دون خوف..لا تنظروا كثيرا للرؤوس المعممة والمهمومة بأثقال تصدع الجبلين اللذين يتكئ عليهما الوادى الضيق. ففى كل مصيبة تحدث للصعيد لا تنتبهوا كثيرا، فهذه أحزان عادية جدا، ولا تأخذكم الشفقة فأهل هذه البلاد يكابرون ولا يحبون نظرات العطف. لا أهمية لمناقشة مجلس الشعب جريمة دخول 65 ألف طن من القمح الفاسد، طالما ذهب إلى الصعيد الجائع، فالعاصفة التى تشتد رياحها هناك تموت هنا، و إلا قولوا لى: ما الذى جرى منذ احتراق قطار الصعيد، هل تبدل حال هذه القطارات أم مازالت إحدى أهم وسائل العقاب الجماعى للصعايدة الذين اضطرتهم الحاجة إلى ذل القطارات، وماذا يجرى بعد عقد جلسات الصلح الوهمية فى جرائم الثأر، ومن يزيد من تلك الجرائم.. من يرفع قبائل وعائلات ويخسف بأخرى، لتتأجج نيران الصراع.. ماذا فعلت الدولة فى سوهاج التى تحتل المرتبة الأولى فى الفقر، غير قيام السيد المحافظ بتجريف مئات الأفدنة من حقول القمح دون أن يمنح الذين استصلحوا هذه الأرض الصحراوية فرصة الحصاد، بحجة أن مدينة سوهاجالجديدة تحتاج لهذا الحيز العمرانى، وتلك مدينة لم تسكنها إلا الأشباح حتى اللحظة.. المحافظ نفسه هو من قام بهدم محطة البنزين الوحيدة على طريق سوهاج - أسيوط الغربى، لأنه يتوقع ارتفاع الأسعار فى هذه المنطقة.. قرارات غير مبررة وحجج غير مفهومة، ومحافظون أهدتهم الدولة محافظات يتسلون بها بدلا من ملل المعاش. ومع ذلك من المدهش أن تنظر السلطة للصعيد، باعتباره عصا موسى التى ستشق البحر أمام الرئيس القادم، وأن صور عجائز الصعيد وهن يحتضن جمال مبارك هى الأولى بأن تتصدر الصفحات الأولى للصحف وأغلفة المجلات القومية، لإثبات أن الرجل محبوب من أفقر فقراء الدنيا ومدعوم منهم، ومهموم بهم، وغارق فى البحث عن حلول لقطع دابر الفقر للأبد، كالثعابين تحت جدران البيوت المتهالكة.. ونسى من فكر ودبر أمر الزيارة أن جمال مبارك لو ذهب إلى أفقر قرية فى سوهاج من دون حُرّاسه الأشداء ومستشاريه النابهين، لاستقبله الناس بترحاب أكبر ولبحثوا له عن ذبيحة حتى لو كانت من أولادهم، لأن الصعايدة هكذا دائما، كرماء جدا مع الغرباء.