بقدر ما أثارت زيارة أوباما لغطاً كبيراً داخل مصر وخارجها، أثارت أيضا جدلاً واسعاً داخل الولاياتالمتحدة، فرفضها جانب كبير من النخبة الأمريكية، معتبرين أن مصر ليست المكان المناسب لإلقاء أوباما لخطابه، نتيجة سجلها السلبى فى مجال الحريات العامة وحقوق الإنسان، والبعض الآخر اعتبر أن دور مصر المتوائم مع الرؤية الأمريكية، يجعلها مكانًا مناسبًا لإلقاء هذا الخطاب كنوع من «المكافأة غير المكلفة»، أو نوع من التقدير لاستجابة مصر لكثير من التصورات الأمريكية خاصة فيما يتعلق بعلاقتها الطيبة مع إسرائيل. وبعيدًا عن كل هذا التباين والجدل السياسى، فالمؤكد أن مصر التاريخية باقية، وأن دور الأزهر الفكرى والثقافى على مدار التاريخ لا يمكن إنكاره بصرف النظر عما أصابه مؤخرًا من تراجع وانغلاق. ولعل السؤال الكبير الذى طُرح مصريًا يتعلق بدلالة الزيارة، وهل مجىء أوباما إلى القاهرة يعنى تغليب المصالح الاستراتيجية الأمريكية على أى رؤى مبدئية تتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان؟ أم أن القضية ليست أبيض وأسود، وأنه لا توجد دولة يمكن أن تتنازل عن مصالحها الاستراتيجية لصالح نشر قيم الديمقراطية، بما يعنى أن الوارد هو دعم التطور الديمقراطى، أو بالأحرى خلق مناخ عالمى يساعد على عملية التحول الديمقراطى فى العالم العربى (لا فرضه بالقوة أو بالضغوط) دون أن يكون ذلك بالضرورة على حساب المصالح الأمريكية، فإذا كانت المبادئ حاضرة فى السياسة، فالمؤكد أن المصالح مهيمنة. ومع أن هناك رسالة أخلاقية لأوباما، ونوايا طيبة تجاه العالم العربى والإسلامى، وتجاه القضية الفلسطينية والشعب الإيرانى، فإن هذه النوايا لن تصنع بمفردها سياسات الإدارة الجديدة، التى ستكون فى النهاية مزيجًا بين نواياه الطيبة، وتوازنات القوة وحسابات المصالح التى تقف إسرائيل فى مقدمتها، فى مقابل ضعف عربى شامل. المؤكد أن زيارة أوباما للقاهرة هى تأكيد على الشق الأول من مشروعه ( نواياه الطيبة، أحلامه الواسعة، خبرته العلمية، موهبته الشخصية) ولكنها لن تغير كثيرا فى الشق الثانى، المتمثل فى ترجمة النوايا إلى سياسات، لأن الطرف المصرى والعربى والإسلامى لايزال عاجزًا عن التأثير فيها. ولذا يبدو الأمر غريبًا أن يستمر بعضنا فى مطالبة أوباما بحل كل قضايانا، متناسين أن قراراته ستحكمها ليس فقط مصالح أمريكا إنما أيضًا توازنات القوة فى العالم، فلا يمكن لأوباما، ومهما كانت درجة دعمه للقضية الفلسطينية، أن يقدم حلاً يضغط به على إسرائيل فى ظل انقسام فلسطينى داخلى بدا كأنه غير قابل للحل؟ وهل نظرة أوباما وأى رئيس منتخب بشكل ديمقراطى لدولنا ومجتمعاتنا التى تغط فى سبات عميق، وتعرف نظمًا سلطوية، هى نفس نظرته لأعدائنا الذين يعيشون فى دول ديمقراطية مهما كان حجم الجرائم التى يرتكبونها بحقنا. لقد عكس مجىء أوباما للسلطة قدرة المجتمع الأمريكى على التحرك والديناميكية، فقد عرف تجربة ثرية، لم تخل من محن ومآسٍ، ولكنه ظل المجتمع الغربى الأكثر حيوية فى الداخل وربما الأكثر قسوة فى الخارج، وأعطى دون عقد لكل من يعيش على أرضه فرصاً حقيقية للترقى الاجتماعى والسياسى. والحقيقة أن ظاهرة أوباما تعد واحدًا من أهم مظاهر التجديد داخل المجتمع الأمريكى، فالرجل ينتمى إلى الأقلية العرقية التى عرفت تاريخاً طويلاً من الاضطهاد داخل أمريكا، ونجحت فى منتصف الستينيات أن تقضى على التمييز القانونى الذى تعرضت له لعقود طويلة. والمدهش أن تغير أمريكا ظل دائمًا يجرى بسرعة مدهشة، نظراً لحداثة المجتمع الأمريكى مقارنة بنظرائه فى أوروبا، فمن المستحيل فى الوقت الراهن تصور وصول مواطن من أصول أفريقية أو عربية إلى سدة الرئاسة الأولى فى المجتمعات الأوروبية، رغم أنها لم تعرف تمييزاً عنصرياً مثل أمريكا، كما أن مجتمعاتنا العربية لا يحلم فيها أى مواطن ينتمى إلى دين أو ثقافة الأغلبية بالوصول بشكل ديمقراطى للسلطة، فمابالنا بمواطن ينتمى إلى أقلية دينية. من المؤكد أن أمريكا التى دعمت كثيرًا من النظم الاستبدادية فى الستينيات، بل شاركت فى ترتيب انقلابات عسكرية للقضاء على نظم ديمقراطية، عادت ودعمت تطبيق الديمقراطية فى كثير من دول العالم، ولكنها فى نفس الوقت قامت بكثير من المغامرات العسكرية خارج إطار الشرعية الدولية، واحتلت العراق دون سند قانونى تحت حجة بناء الديمقراطية، وقتلت مئات الآلاف من الضحايا الأبرياء ثمنًا ل«ديمقراطية» لم تأت. المؤكد أن أمريكا حين تدعم الديمقراطية فى بعض بلاد العالم، فإنها تدعم مصالحها أيضا، خاصة بعد أن تولدت لديها فى أعقاب اعتداءات 11 سبتمبر قناعة ترى أن تصاعد الإرهاب راجع لغياب الديمقراطية عن العالم العربى، ولكنها نسيت أو تناست النصف الثانى من الحقيقة، وهو أن غياب العدالة الدولية ووجود «الاستثناء الإسرائيلى» كحالة تنتهك القوانين والشرائع الدولية هما أيضاً سبب رئيسى وراء تصاعد الإرهاب. من المؤكد أن هناك أسبابًا كثيرة وراء انحياز أمريكا المطلق لإسرائيل منها وجود دور مؤثر للوبى اليهودى على صانع القرار فى البيت الأبيض، ويرجع ليس فقط لقدراته التنظيمية إنما أساسًا لكون خطابه أصبح أحد ثوابت الخطاب السياسى الأمريكى الرسمى، ونجح فى ربط الدفاع عن إسرائيل بالدفاع عن الديمقراطية ومحاربة الإرهاب والعنصرية، وهذا ما فشلنا أن نثبت عكسه نحن العرب. من الواضح أن الحكومات العربية لن تغير من هذا الانحياز الأمريكى الأعمى لإسرائيل، لأنه ليس لديها الكثير الذى تقدمه، إنما أصبح هناك أمل فى ظهور جيل عربى أمريكى جديد يتقن قواعد اللعبة السياسية الأمريكية، وقادر على التأثير فيها، ويستفيد من تلك الفرص الهائلة التى يعطيها النظام السياسى الأمريكى لكل الأقليات العرقية والدينية، خاصة مع مجىء رئيس يمثل إحدى هذه الأقليات. أما أمريكا فلن تتغير من أجلنا حتى لو زار أوباما مصر 10 مرات، فهى تدافع أولاً عن مصالحها، وقدمت نموذجًا داخلياً فيه كثير من عوامل القوة والجاذبية التى جعلته يتغير بهذا الشكل المذهل، ومازلنا نحن نقيّمه على ضوء ما سوف يفعله أو لا يفعله لنا، مع أن المطلوب أن نعمل نحن من أجل أنفسنا ومصالحنا وليس من أجل أمريكا ولا أى دولة أخرى فى العالم. إن الأمريكيين قاموا بواجبهم (home work) تجاه نظام الحكم الذى جثم على صدور أمريكا والعالم 8 سنوات، واختاروا إدارة جديدة مختلفة فكرياً وسياسياً عن الإدارة الراحلة، فى حين بقينا نحن «محلك سر»، لم يتغير عندنا حاكم واحد فى أى انتخابات، وبالتالى من الصعب أن ننتظر من المجتمعات التى غيّرت حكامها بطريقة سلمية أن تعطى شيئاً يذكر لتلك التى تبلدت فى أماكنها. [email protected]