رُبَّ صدفة خير إن شاء الله. لم يكن الشباب الذين حلموا بإنشاء متحف الهولوكست الفلسطينى يتخيلون أن موعد انطلاقه صباح اليوم سيتوافق مع الزيارة الكريهة للسفاح الإسرائيلى بنيامين نتنياهو لمصر الرسمية. عندما سألتهم هل قصدوا اختيار الموعد، اكتشفت أنهم لم يكونوا متنبهين لذلك، لكنى لمحت لمعة فرح فى أعينهم، لأن جهدهم الجميل سيكون أبلغ رسالة على أن مصر الشعبية لن تتصالح أبداً مع واقع التطبيع المفروض عليها كرهاً، وأن المصريين كما انتصروا فى معركة الحرب وفى معركة السلام سينتصرون فى المعركة الأخطر التى ستحسم صراعنا مع إسرائيل فى وقت ما يعلمه الله: معركة الذاكرة. الحكاية بدأت قبل أكثر من عام على يد شابة جميلة اسمها داليا يوسف، كانت تشاهد مع زوجها مدمن مشاهدة الأفلام السينمائية فيلماً أمريكياً اسمه «freedom writers»، من بطولة النجمة الأمريكية الحائزة مرتين على الأوسكار هيلارى سوانك، فى البداية ظنّا أن الفيلم مجرد تنويعة مملة على لحن الهولوكست الذى لا تمل هوليوود من عزفه، لكن الفيلم متقن الصنع جذبهما حتى النهاية، بدأ بتيمة سينمائية مكررة عن مُدرّسة تذهب إلى مدرسة فى حى فقير لتدرس فصلاً مليئاً بالمشاغبين والضائعين الذين داستهم الحياة الأمريكية القاسية، لكنها تنجح فى تغييرهم من خلال زيارة تصطحبهم فيها إلى متحف الهولوكست الذى أقيم فى أمريكا لتخليد ضحايا النازية من اليهود، ويبدأ الطلبة بكتابة خطابات افتراضية إلى ضحايا الهولوكست، وينجح شعورهم بالتعاطف مع هؤلاء فى إعطائهم دفعة معنوية تجعلهم يشعرون بأنهم أحسن حظاً لأنهم لم يخوضوا تلك التجربة المريرة. الزوج بعد المشاهدة اكتفى بالندب والعويل، لأننا كعرب لم ننجح فى تخليد مآسينا وتضحياتنا على شاشة السينما، واستعاد نظرية المؤامرة وهو يتذكر محاولاته التى باءت بالفشل من أجل تحقيق عمل عن حرب أكتوبر وآخر عن فلسطين، أما الزوجة التى تعودت دائماً أن تفكر فيما ينبغى عمله أكثر مما ينبغى قوله، فقد لمعت فى ذهنها فكرة أن تتبنى إنشاء متحف للهولوكست الفلسطينى على شبكة الإنترنت (مجال عملها وهوايتها معاً) يضم صور ضحايا المجازر الإسرائيلية المتكررة قبل استشهادهم وبعد استشهادهم ونبذة عنهم وعن حياتهم، لكى لا يصبحوا مجرد أرقام تتناقلها نشرات الأخبار، وبعد مجهود استمر لأكثر من عام ها هى الفكرة تخرج إلى النور على شبكة الإنترنت، وقريباً ستتحول إلى متحف حقيقى فى إحدى المدن العربية بعد أن تخلت مصر الرسمية عن دعم الفكرة، رغم مطالبة الأستاذ أحمد المسلمانى بذلك فى برنامجه «الطبعة الأولى» لأكثر من مرة. هناك أناس خلقهم الله مُحصَّنين ضد اليأس ومعصومين من الثرثرة ومؤهلين فقط للعمل دون صخب، هذه الشابة وزملاؤها الجدعان منهم، وبهم فقط يمكن أن تثق أن هذه الأمة لن تموت أبداً مهما تردَّى وضعها فى غرف الإنعاش، هكذا قلت لنفسى وأنا أتذكر ما سبق أن فعلته هذه الشابة بعد عدوان إسرائيل على لبنان عام 2006 عندما قامت هى وزملاؤها بتنظيم طائرة مساندة إعلامية وسياسية للبنان تضم عدداً من الرموز الإعلامية والفنية والثقافية، ولم تستسلم للخذلان الذى لقيته الفكرة وقتها ومحاولة أطراف عديدة تجبير الفكرة لمصلحتها، وبعد أقل من عام ها هى تنطلق بفكرة جديدة اهتزت لها الصحافة الإسرائيلية فور أن بدأت تخرج إلى النور، وبدأت تلاقى أصداء من أناس كثيرين فى العالم الذى نفضل ألا نراهن عليه ونلعنه، مع أننا لم نحاول أبدا أن نخاطبه باحتراف وذكاء كما يفعل أعداؤنا. أعترف أننى توقعت ألا تنجح الفكرة كعادة أغلب الأفكار النبيلة، لكننى منذ أيام وعندما رأيت لمعة الفرحة فى عينيها، وهى تشعر أخيراً أن فكرتها سترى النور، شعرت بحب عميق نحوها، لدرجة أننى فكرت أن أعلن لها حبى وأطلبها للزواج، لكنها نبهتنى أننا متزوجان فعلاً، خفت أن أعلن لها حبى لكل من عمل معها فى هذه المبادرة، لكى لا تفهمنى خطأً، فأعلنت لها فخرى بهم جميعاً، واختصصتها بمزيد من إعلان الحب. ادعموا متحف الهولوكست الفلسطينى بحضوركم لأول فعالياته، معرض «لاجئون إلى الذاكرة»، الذى يضم صوراً مميزة لأربعة فنانين فلسطينيين محترفين تخلّد ضحايا الهولوكست الفلسطينى. المعرض ينعقد فى قاعة النهر بساقية الصاوى بالزمالك بدءاً من اليوم الاثنين ويختتم الجمعة باحتفالية ثقافية وفنية، وحضوركم وتضامنكم مع حرب الذاكرة أجدى بكثير من الاكتفاء بلعن نتنياهو والسخط على مَنْ صافحوه. * يستقبل الكاتب بلال فضل تعليقاتكم على مقالاته عبر بريده الإلكترونى الخاص. [email protected]