لا أظن أن عالماً مصرياً تولى وزارة الصحة ورئاسة جامعة القاهرة ورئاسة أكاديمية البحث العلمى مثلما هو الأمر بالنسبة للأستاذ الدكتور «إبراهيم بدران»، ذلك الجراح الفذ والنطاسى البارع والإنسان الرائع، وتعود علاقتى بهذه الشخصية المتميزة إلى مطلع السبعينيات من القرن الماضى عندما كنت قنصلاً لمصر فى «لندن» وأمضى هو بضعة أيام فى العاصمة البريطانية عام 1972 فى مهمة علمية وطبية وكان يتردد وقتها على مبنى القنصلية العامة فتوطدت صلتى به لأننى كنت أعرف قدره العلمى وأدرك مكانته الطبية، وقد فوجئت به يوم جاء لوداعنا فى مبنى القنصلية قبل سفره يترك لى رسالة شخصية مغلقة وبعدما غادر المكان فتحتها لأجد فيها رسالة شكر تفيض رقياً وتحضراً ودماثة، وبعد ذلك بأيام جمعتنى مائدة العشاء بمسكن القنصل العام السفير «محب السمرة» مع المرحوم الأستاذ الدكتور «مصطفى الديوانى» وقد قال لى «إننى قد جاوزت السبعين ولكننى دائماً على يقين من قيمة ابن عمتى الدكتور إبراهيم بدران وأعرف فضله ودوره الإنسانى» عندئذ أدركت أن المحترم فى عائلته محترم أيضاً فى وطنه محبوب عند الله والناس، وشاءت الأقدار بعد ذلك بعدة سنوات أن أستقبل الأستاذ الدكتور «إبراهيم بدران» والسيدة الفاضلة قرينته فى «الهند» حيث جاء إليها فى مهمة علمية بهر أثناءها الهنود من خلال مداخلاته وتعليقاته ومحاضراته ولقد حضرت معه جانباً من تلك اللقاءات والرجل يجوب المراكز البحثية الهندية والجامعات العريقة هناك، و»الهند» لمن لا يعرف تضم أكبر حشد من العلماء والباحثين فى العالم الثالث، وذات مساء وبينما نحن نجلس فى بيتى مع الضيف الكبير وقرينته اقترحت هى بمناسبة التواجد فى بلاد الأساطير أن ندعو عرافاً هندياً نتحدث معه ونستمع إليه من قبيل الفكاهة وتسلية الوقت، وأخذت الأمر بجدية لأننى كنت أسمع عن أشهر عراف فى تاريخ «الهند» وكان موجوداً فى أحد الفنادق القريبة من منزلى وقد دعوناه فحضر وأطلعنا على خطابات شكر موجهة إليه من «جواهر لال نهرو» رئيس وزراء الهند الأسبق ومؤسس الدولة الحديثة وابنته رئيسة الوزراء «أنديرا غاندى» و»كريشنا منون» وزير الدفاع الشهير وكلهم يشيدون بفراسته وقدرته على استطلاع الغيب، وقد تحفظ أستاذنا الدكتور «إبراهيم بدران» على المشهد قائلاً (كذب المنجمون ولو صدقوا) مضيفاً (لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع)، ولكننا مضينا نستمع إلى الرجل وهو يقرأ الكف لكل منا وكان ذلك فى شهر مايو 1983 وقد قال لى يومها (إنك سوف تكون فى «القصر» قبل نهاية هذا العام) فابتسمت ونظرت إلى الدكتور «إبراهيم بدران» وقلت له (إننى سوف أكون ضيفاً عليك فى قصر العينى للعلاج من مرض ما) وشعرت ببعض القلق والتشاؤم، وشاءت الأقدار أن أكون فى «القصر الجمهورى المصرى» قبل نهاية ذلك العام كما قال العراف منضماً إلى مؤسسة الرئاسة وهو أمر تغيرت معه مسيرة حياتى إلى حد كبير ويومها تذكرت ذلك العراف الهندى وأدركت أن هناك فارقاً بين ال»قصر العينى» و»القصر الجمهورى»!. إن الدكتور «إبراهيم بدران» فى يقينى قيمة مصرية رفيعة وجوهرة إنسانية فريدة حباه الله حسن الخلق وطهارة النفس وجعل بينه وبين الناس وصالاً لا ينقطع، وعندما فقد الرجل الصابر المحتسب ابنه الطبيب أثناء عملية جراحية وجدته بعدها صامداً مؤمناً عابداً وقال لى عند العزاء (إننى ساجد لله ولا أملك لقراره تبديلاً)، وما زالت تجمعنى به مناسبات عديدة سواء كان ذلك فى عضوية «المجمع العلمى المصرى» أو فى زمالة «مجلس أمناء الجامعة البريطانية»، وغيرهما من المراكز العلمية والمنتديات الثقافية وأجده دائماً هو ذلك المصرى الغيور على وطنه، الحريص على القيم الإنسانية، المؤمن بقيمة البحث العلمى صاحب الأفكار المستنيرة، والمبادرات السابقة لعصرها، المطلع على أحدث التقنيات الحديثة والطرائق الجديدة فى كافة مجالات العلوم بل وساحات الفكر وميادين الأدب أيضاً، وأتذكر أننى تعرضت لنوبة اكتئاب منذ عدة سنوات عندما اعتذرت عن قبول دعوة لزيارة إسرائيل فى مهمة رسمية وكانت الضغوط حولى قوية فاتصل بى الأستاذ الدكتور «إبراهيم بدران» يستفسر عن ظروفى الصحية وقال لى يومها (عليك أن تضبط ساعات نومك وأن يكون نوماً عميقاً وصحياً حتى تخرج من الحالة التى تعرضت لها على أن تشغل نفسك طوال اليوم فى العمل فذلك هو المخرج الوحيد من أزمتك مع ممارسة الرياضة والقراءة فى الفروع التى تهواها)، وأشهد الله أن نصيحة ذلك «الحكيم» قد ساعدتنى كثيراً فى الخروج من ذلك المأزق الصعب.. إنه الأستاذ الدكتور «إبراهيم بدران» رائد الجراحة الحديثة فى الشرق الأوسط، وصاحب القلب الكبير الذى يحتوى الناس جميعاً، والرجل الذى جمع بين العلم والإيمان فى شخصية واحدة فكان بحق واحداً من «بركات» هذا الوطن، ونموذجا تقتدى به الأجيال فى المستقبل ليظل اسمه علماً شامخاً يرفرف على قمة الطب المصرى الحديث.