أنا آسف. ظلمت وزارة الصحة عندما اتهمت مسؤوليها بتجاهل ما نشرته من صرخات أولياء أمور الملائكة الصغار الذين يواجهون برجولة مرض التوحد، عدت من سفر طويل فوجدت فى بريدى الورقى ما كنت أنتظره على بريدى الإلكترونى، ردا طويلا من الدكتور عبدالرحمن شاهين، المتحدث الرسمى لوزير الصحة، أرسله إلىّ بعد يومين فقط مما نشرته. تقرأ الرد فتشعر كعادة كل الردود الحكومية أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، فالوزارة تقدم خدمات لأطفال التوحد بالتعاون مع الحكومة الفنلندية فى مستشفيات الصحة النفسية فى القاهرة وحلوان وأسيوط وبورسعيد والإسكندرية والقليوبية من خلال مدربين تم إعدادهم على يد متخصصين فنلنديين، فضلا عن استحداثها لمركز علاج نهارى متخصص فى التوحد فى طب نفسى الأطفال بمستشفى العباسية للصحة النفسية، هذا غير علاج وتأهيل مرضى التوحد بالعديد من أقسام الطب النفسى بالمستشفيات الجامعية ومستشفيات التأمين الصحى والمستشفيات التعليمية والمعهد العالى لدراسات الطفولة التابع لجامعة عين شمس، وتنظيم الوزارة بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم دورات تدريبية لأكثر من 300 مدرس وإخصائى نفسى، وإعداد خطة تدريبية لأطباء الرعاية الأساسية لتنمية مهاراتهم على اكتشاف التوحد والتعامل معه. الرد يصف التوحد بأنه اضطراب نفسى، ويجزم بأنه لا يوجد دواء مقنن لعلاجه، فقط هناك عقارات للسيطرة على بعض أعراضه، ويؤكد أنه لم يجمع الباحثون على نظام غذائى معين لتصحيح مسار الخلل العصبى عند مرضى التوحد، كما أن الرد ينفى أن تكون هناك فحوصات معملية أو أشعة تشخيصية لتشخيص حالات التوحد، أى أنه يرفض بالمدَّارى طلبات أهالى مرضى التوحد بتيسير إرسالهم لعينات أبنائهم إلى معامل فى الخارج، وكذلك طلباتهم بأن يتم التيسير الجمركى على المكملات الغذائية المستوردة التى يحتاجها أبناؤهم. الآن تسأل: إذا كانت الوزارة قد فعلت كل هذا لمرضى التوحد، فمن أين جاءت إذن كل تلك الشكاوى التى نشرت بعضا منها، والتى توحدت جهود أصحابها فأنشأوا رابطة على ال«فيس بوك» ليتبادلوا الخبرات معا بعد أن يئسوا من الدولة؟ هل هم قلة مندسة جاحدة لكل إنجازات الوزارة التى يعددها الرد؟ يأتيك الجواب فى الفقرة الأخيرة للرد التى تحمل اعترافا بتقصير الدولة فى التعامل مع التوحد بشكل متحضر كما يحدث فى البلاد التى تحترم شعوبها، فهو يبشرنا بوجود «مقترح لإنشاء مركز متخصص متكامل فى علاج التوحد بمستشفى العباسية والاسترشاد به لاحقا كنموذج أولى يتم تطبيقه فى محافظات مختلفة»، وإلى أن يحيينا ويحييك ويظهر هذا المقترح إلى النور، دعونا نأمل أن يكون مرض التوحد قد اختفى من على وجه الأرض، وأغنى الله الآباء والأمهات عن الحاجة لوزارة الصحة. على أى حال لا أستطيع أن أتجاهل شكر الوزارة على اهتمامها بالرد، فقط كنت أتمنى أن يبشرنا الرد بخطوة عملية تبرد نار الآباء والأمهات، كأن يعلن عن مبادرة لدعوة رابطتهم للقاء يتم فيه بحث طلباتهم وشكاواهم بدلا من الردود المتستفة التى تشعر كاتبيها بالرضا عن النفس، لا أدرى هل يعلم السادة فى وزارة الصحة أن هناك طبيبة سورية اسمها هيفاء الكيالى توصلت منذ أيام إلى تقنية علاجية لمرض التوحد تمكنت بفضل الله من علاج طفلين سعوديين من مرض التوحد بعد أن تم إخضاعهما لنظام غذائى يركز على اليقطين والجوز والتمر خلال 14 شهرا؟ واحتفت السعودية فى كل وسائل إعلامها المرئية والمقروءة بالحدث وصانعته، هل نتمنى أن تقوم وزارة الصحة بدعوة الطبيبة السورية إلى مصر على نفقة الدولة للاستفادة من تجربتها ومنح أهالى مجابهى التوحد الفرصة للالتقاء بها وبحث حالات أطفالهم الجدعان؟ أتمنى أن يحدث ذلك، فقد لمست خلف الحرص على الرد، برغم كلماته المتستفة الجامدة، ضميرا يقظا لن يبخل على مواطنين مصريين بخطوة عملية أبرك لهم من سراب المقترحات. أريد هنا أن أنتهز فرصة وجود من يهتم بأمر المصريين فى وزارة الصحة، لأنشر رسالة جاءتنى من الأديب جمال مقّار، صاحب رواية (كتاب الودعاء) الجميلة، يحكى لنا فيها كيف ذهب يوم الخميس 17 سبتمبر الماضى إلى مستشفى جراحات اليوم الواحد بمدينة نصر، بعد أن أصيب بمغص كلوى مفاجئ واحتباس فى البول، حصل أولا من الرعاية الصحية فى عمله على بطاقة عرض على المستشفى الذى وصل إليه فى العاشرة صباحا وسجل نفسه لدى الموظفة المختصة فى العاشرة صباحا، لم يجد استشارى المسالك البولية، وظل ينتظره مع شخص آخر يحمل أشعات أكثر من ساعة وربع، كان يبدو أن حامل الأشعة قد سبق فى الانتظار ومن ثم فقد سبق جمال فى الخنقة، فأثار ضجة نزل على إثرها مدير المستشفى لتوقيع الكشف على مثير الضجة، ثم بدأ مناقشة حالة «الوديع» جمال، وكتب له على أشعة تليفزيونية وأشعة عادية وتحليل للبول، طلبت منه الموظفة إحضار خطاب آخر من الرعاية الصحية بقبول دفع المبلغ، «أفهمتها أننا داخلون على إجازة العيد، فقالت لى: اذهب لمدير المستشفى، وبالفعل ذهبت إلى الرجل وحاولت إفهامه أننى فى حالة حرجة، فقال بلا مبالاة: اذهب واعمل الأشعات على حسابك قبل مايحصلك حاجة، أو أقول لك هات الروشتة. أعطيتها له معتقدا أنه سيصلح الأمر على نحو ما، ففوجئت به يمزق الورقة، ويقول لى: يللا اتفضل انتظر الاستشارى. وانتظرت كمن ينتظر جودو، ثم سألت موظف الكاونتر، فأجابنى: أصل الدكتور (ع. ل) بيعمل هنا بعقد، يجىء وقت ما يحب. ولما قاربت الساعة الثانية عشرة، وكان علىّ العودة إلى العمل، آثرت الانصراف. هكذا تدار المسائل إذن، على نحو من التسيب والفوضى الشديدين، حيث لا حسيب ولا رقيب. أرجو أن تجد رسالتى طريقها إلى النشر لتوضع أمام وزير الصحة، لعلها تنقذ حالات أشد خطورة من حالتى». لست غرا ساذجا لكى أتصور أن ما حدث للأستاذ جمال أمر استثنائى لا يصدقه عكل، يا سيدى بدأت حياتى المهنية كمحرر لبريد القراء، ومن ساعتها وحتى اليوم نشرت وقرأت وسمعت وشهدت حالات من الإهمال الطبى والاستهتار بأرواح البشر تجعل إبليس يخجل من نفسه على تقصيره فى عمله، ومع ذلك فما استفزنى فى هذه القصة هو قيام مدير المستشفى بتقطيع الروشتة بذلك الشكل المزرى، مع أنه يتعامل مع أفندى محترم معتبر، فكيف كان سيكون الحال لو أوقع الله بين يديه سيدة مكسورة الجناح أو رجلا رث المظهر أو أحدا من المسنودين على العدم، وإذا كان ذلك يحدث فى مدينة نصر فأى عذاب سيحيق بالمهزومين فى القرى والنجوع ومدن التيفود والغبار والطلمبات الحبشية، وإذا كان مدير مستشفى محترم يتصرف بهذا الشكل المخجل، فاللهم أجرنا من الممرضين وعمال المستشفيات وموظفيها وأفراد أمنها. هل نطمع هذه المرة فى رد من خمسة سطور دون ديباجات ولا كلام كثير يعاقب المخطئين ويحاسب المستهترين بأرواح الناس، وإلا فإذا كنا لن نثق فى قدرتكم على علاج الكلى بشكل متحضر فكيف نثق فى قدرتكم على التصدى للوباء الفتاك. ويا خفى الألطاف نجنا مما نخاف. * يستقبل الكاتب بلال فضل تعليقاتكم على مقالاته عبر بريده الإلكترونى الخاص. [email protected]