بعد أن تابعنا فى مقالنا الأول الذى نُشر أمس بعض - وليس كل - الصفحات البيضاء التى أسفرت عنها معركة اليونسكو فى صالح المرشح العربى الفنان فاروق حسنى، وزير ثقافة مصر، نبدأ اليوم فى تحديد الصفحات السوداء لبعض القوى التى أفصحت عن عدائها للجانب العربى منذ البداية، وبدأت على الفور بشكل علنى أو مستتر حملة ضارية للحيلولة دون وصوله إلى منصب المدير العام لليونسكو، لأسباب سنفصح عنها فيما هو آت. ولا شك أن فى مقدمة هذه القوى إسرائيل التى كانت صاحبة أول هجوم على المرشح المصرى حين اتهمته بالوقوف فى وجه التطبيع الثقافى بين مصر وإسرائيل، وقالت إنه كان العقبة الرئيسية أمام كل المحاولات المستميتة التى قامت بها إسرائيل فى هذا الشأن منذ تولى وزارة الثقافة قبل 22 عاما. ثم بدأت إسرائيل تبحث وتنقب فى ملف وزير الثقافة المصرى بحثا عن أقوال ومواقف تستطيع أن تستخدمها فى حملتها ضده، وما أن تلفظ الوزير فى لحظة انفعال بمقولة حرق الكتب حتى تصورت إسرائيل أنها وجدت ضالتها فبدأت تصور الوزير المصرى وكأن سياسته تقوم على إشعال الحرائق، وقد كان السفير الإسرائيلى فى القاهرة شالوم كوهين يعلم تمام العلم بحكم معرفته باللغة العربية أن تعبير الحرق هذا له معنى مجازى ولا يُقصد به المعنى الحرفى، لكنه لم يقم بواجبه كسفير يفترض أن مهمته هى تحسين العلاقات بين الدولتين وليس الإساءة إليها كما فعل بتأجيح الخلاف وإعطاء إسرائيل ما يمكنها من محاربة مصر على الساحة الدولية. ومن الطريف أن الرئيس الراحل أنور السادات الذى كثيرا ما تتحسر إسرائيل على أيامه باعتباره رجل السلام الذى عقد أول اتفاقية عربية مع الدولة اليهودية، كان أول من تلفظ بتعبير «الحرق» وذلك فى حديث له مع مجلة «أكتوبر» فى مجال حديثه عن سيناء ورفض إسرائيل الانسحاب منها بحجة ما أقامته فيها من مشروعات، وحين جاء الحديث عن مدينة «ياميت» التى أقامتها إسرائيل فى قلب سيناء قال السادات «يحرقوها»، وبالطبع تصاعدت داخل إسرائيل بعض الأصوات الرافضة للانسحاب ضد هذا التصريح، لكن الأستاذ أنيس منصور رئيس تحرير «أكتوبر» فى ذلك الوقت نشر على الفور أن المسألة لا تعدو كونها «غلطة مطبعية» حيث كانت الكلمة التى استخدمها الرئيس هى «يحرثوها» وأنه لم يكن يقصد الحرق. وكما تراجع السادات تراجع فاروق حسنى أيضا موضحا أنه لم يكن يقصد المعنى الحرفى للكلمة، وأنه يأسف على أى حال لأنه تلفظ بهذه الكلمة وسط مناقشة انفعالية، لكن لفظ «الحرق» أسدلت عليه ستائر النسيان فى حالة السادات حتى لم يعد أحد يتذكر الآن تلك الواقعة، بينما استمرت الحملة ضد فاروق حسنى مستخدمة نفس اللفظ وكأنه لم يتراجع عنه ولم يعلن أسفه عليه. وهكذا اتضحت منذ البداية أن الحملة اليهودية لم تكن بسبب كلمة تلفظ بها المرشح المصرى وإنما لأسباب أخرى استخدمت فيها تلك الكلمة رغم تراجع الوزير عنها، بل ظلت تستخدم طوال جولات التصويت حيث قامت قناة «فرانس 24» فى نفس يوم الجولة الخامسة والحاسمة للتصويت على المدير العام الجديد بإعادة إذاعة حديث قديم للصحفى اليهودى برنار هنرى ليفى الذى يحب أن يطلق على نفسه لقب الفيلسوف لأنه تخرج فى قسم الفلسفة، يقول فيه إن المرشح المصرى وعد مجلس الشعب المصرى بأنه سيقوم بحرق أى كتب باللغة العبرية بيديه الاثنتين، فكيف نتركه يتحكم فى مصير اليونسكو؟ وكان نفس هذا الكاتب قد وقّع مع يهوديين آخرين هما الكاتب اللى فيزل والسينمائى كلود لانزمان المعروفان مثله بأنهما يبديان ولاءهما لإسرائيل على الولاء لوطنهم فرنسا، مقالا أفردت له جريدة «لوموند» مساحة كبيرة مشيرة إليه فى صدر صفحتها الأولى. وقد استخدمت مصر نفوذها مع إسرائيل، وتمكن الرئيس حسنى مبارك من إلزام رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بوقف الحملة ضد المرشح المصرى، لكن إسرائيل راوغت كعادتها، ففى نفس الوقت الذى توقفت فيه الحملة الإسرائيلية الرسمية ضد المرشح المصرى انطلقت أبواق صهيونية أخرى فى واشنطن وألمانيا وإيطاليا والدنمارك بالإضافة لفرنسا بلد مقر اليونسكو تردد نفس الاتهامات ونفس الأقوال إلى أن اكتشف منشور واحد أُرسل إلى كل هذه العناصر الصهيونية فعزفت جميعها نفس اللحن الذى انطلق يهاجم المرشح المصرى من أركان العالم الأربعة. ولقد استمرت تلك المعزوفة النشاز طوال الحملة الانتخابية، وفى الأسبوع قبل الماضى، وقبل أيام من بداية الجولة الأولى للانتخابات علمت من مصادر صحفية لا يرقى إليها الشك أن هناك عريضة ضد انتخاب فاروق حسنى وصلتنى نسخة منها وقعها برنار هنرى ليفى مع كلود لانزمان، وعلمت أن أصحابها يبحثون الآن عن اسم من داخل مصر يوقع معهم العريضة حتى تكتسب العريضة بعض المصداقية ولا تظل معبرة عن اليهود وحدهم، ولقد تردد اسم الكاتب علاء الأسوانى الذى بلغنى أنهم يسعون للاتصال به فى مصر لوضع اسمه على العريضة الموجهة ضد المرشح المصرى، لكنهم لم يتمكنوا من ذلك، ولو كان ذلك بسبب رفضه التوقيع فإننى أحييه على هذا الموقف، كما لم يتمكنوا أيضا من الوصول إلى اليهودى الثالث الذى وقع معهم البيان الأول، وهو اللى فيزل لوجوده فى ذلك الوقت فى الولاياتالمتحدة. فى تلك الأثناء كانت الأمور قد تطورت مع توالى جولات الاقتراع داخل اليونسكو، وتم تصعيد إيرينا بوكوفا مرشحة بلغاريا لتصبح هى المنافسة لفاروق حسنى فتغيرت صيغة البيان الذى لم يحمل إلا اسمى هنرى ليفى ولانزمان، فتم إسقاط الاتهام بالسامية الذى يبدو أن الناس قد ملته وتم التركيز على الدعوة لمنح المرأة فرصة لقيادة اليونسكو لأول مرة فى تاريخها «!» ولقد نشرت جريدة «الفيجارو»، أمس الأول، أن الاتفاق الذى تم بين الرئيس مبارك ونتنياهو كان يقضى بأن توقف إسرائيل حملتها ضد المرشح المصرى فى سبيل أن يقوم فى حالة فوزه بضم إسرائيل إلى عضوية المجلس التنفيذى لليونسكو «!!» وهو حلم قديم لإسرائيل طالما سعت إليه دون جدوى، مما يشير إلى عدم صحة هذا الخبر، فلو كان صحيحا لاستماتت إسرائيل فى الدفاع عن فاروق حسنى ولأسكتت كل الأصوات اليهودية التى أطلقتها فى العالم ضد ترشيحه، والأقرب إلى الظن أن وقف الحملة ضد فاروق حسنى كان فى مقابل وقف الحملة ضد وزير الخارجية العنصرى أفيجدور ليبرمان، لكن إسرائيل لم تلتزم بهذا الاتفاق على أى حال. وهذا يقودنا إلى السؤال الذى لم يجب عنه أحد حتى الآن وهو: ما سبب تلك الهجمة الشرسة التى لم تشهد لها اليونسكو مثيلاً منذ إنشائها قبل أكثر من 60 عاما؟ بالطبع هناك عداء إسرائيل التقليدى للعرب وسعيها الدؤوب للحيلولة دون وصولهم إلى أى مواقع دولية تحد من سيطرة اليهود على الساحة الدولية، لكن فى حالة اليونسكو هناك سبب آخر وهو ملف القدس الذى أصبح يعلوه التراب بعد أن أهمله المدير العام اليابانى كوتشيرو ماتسوورا قاصدا طوال السنوات الأخيرة أن ما يجرى الآن فى القدس من عمليات طمس للآثار الإسلامية والاستماتة فى تهويد المدينة العربية يعد أكبر انتهاك لمبادئ اليونسكو ومواثيقها، وهناك من القرارات الدولية الصادرة ضد سلطات الاحتلال الإسرائيلى ما يعجز عن إخفائه أحد، ذلك أن الحفاظ على التراث يعد من أهم مسؤوليات اليونسكو إن لم يكن أهمها، وما تفعله إسرائيل فى القدس الآن يتنافى تماما مع موقف اليونسكو فى هذا الشأن، ولقد تجمع لدى اليونسكو بيانات دامغة تدين إسرائيل لكن المدير العام اليابانى الذى أعاد الولاياتالمتحدة وإسرائيل إلى صفوف المنظمة الدولية لم يعر ملف القدس أى اهتمام طوال السنوات الثمانى الأخيرة، ووصول مدير عام عربى إلى اليونسكو لا شك يسبب لإسرائيل قلقا بالغا كان عليها أن تحول دون وقوعه بأى ثمن حتى تتمكن من مواصلة عملية التهويد التى تجرى الآن على قدم وساق فى جميع أرجاء القدس الشريف. هذا هو السبب الحقيقى فى العداء الذى أظهرته إسرائيل وأعوانها ضد المرشح المصرى وليس خوفهم من حرق الكتب اليهودية، وهم بذلك كانوا سيناصبون أى مرشح عربى العداء حتى ولو لم يكن له موقف من التطبيع، ولو لم يكن قد تلفظ بكلمة الحرق مثلما فعل فاروق حسنى أو الرئيس السادات من قبله. ولا يمكن للحديث عن العداء اليهودى لمرشح مصر فى اليونسكو أن يكتمل دون أن نشير إلى أنه كانت هناك أصوات يهودية محترمة فى فرنسا وخارجها لم تشارك تلك الأبواق الصهيونية سالفة الذكر عداءها المحموم للمرشح المصرى، كان من بينهم أعضاء جمعية النبى دانيال التى تضم يهود الإسكندرية الذين رفضوا الاتهامات الموجهة ضد فاروق حسنى، وأقاموا له حفل عشاء خاصاً فى مجلس الشيوخ الفرنسى للتأكيد على موقفهم، فما كان من بعض الأبواق الإسرائيلية فى فرنسا إلا أن أرسلوا لهم الخطابات التى اطلعت بنفسى على بعضها والتى تهاجمهم بأقسى الألفاظ، مدعين أن المصريين يستخدمونهم ويهزأون منهم. كما قامت شخصية يهودية فرنسية كبيرة بإصدار بيان تعبر عن احترامها لما يمثله فاروق حسنى من موقف شريف وتعلن تأييدها له، تلك الشخصية هى سيرج كلارسفيلد الذى يرأس جمعية يهودية مهمة فى فرنسا للدفاع عن اليهود الذين تم ترحيلهم من فرنسا خلال فترة الاحتلال النازى، ومما يذكر أن ابن كلارسفيلد هو أحد مستشارى الرئيس نيكولا ساركوزى. ومن الغريب، أو هو ليس بغريب، أن أخبار تلك الأصوات اليهودية، لم تنشر فى الصحف الفرنسية التى فتحت صفحاتها لحملة الهجوم وحدها، وهو ما سنتحدث عنه فى مقال آخر. على أن الحملة ضد المرشح المصرى لم تأت من الدوائر اليهودية وحدها، وإنما كانت بعض الدول الكبرى التى تربطنا بها علاقات خاصة ضليعة فى قيادتها وتوجيه دفتها، ولا أقصد هنا الولاياتالمتحدة وحدها وإنما أقصد دولا أخرى سنتحدث عنها بالتفصيل فى المقال المقبل.