كانت لى ملاحظات على بعض مواقف السيد فاروق حسنى، حتى بعد ترشيحه مديرا عاما «لليونسكو»، ولكن متابعتى لتطورات ومفاجآت المعركة الشرسة التى تكاد تصل إلى درجة الحرب القاسية، وقد تعدت شخص فاروق حسنى إلى أبعد وأوسع مما كان يظن أى مراقب لهذه المعركة، وهذه المرة - بالذات - فلم يكن أحد يسمع بهذه الضجة والصخب الذى يصاحب هذه المعركة فى المرات السابقة.. كانت انتخابات «اليونسكو» فى المرات السابقة تمر أخبارا على وكالات الأنباء وأجهزة الإعلام دون أن تكون لها نفس الخلفية التى تحرك المواقف وتحاول تغيير الأحداث هذه المرة رغم وجود مرشحين عرب قبل ذلك من أشهرهم الدكتور إسماعيل سراج الدين، مدير مكتبة الإسكندرية المثقف واسع الثقافة. إنها تبدو معركة صراع الحضارات من جانب، والصراع على النفوذ السياسى والدولى من جانب آخر، فهى صراع حضارات وثقافات بين الثقافة العربية وبعض اليهود وليسوا سواء من المرشح العربى، لا لأنه فاروق حسنى، ولكن لأنه عربى بدليل أن فاروق حسنى عمل الكثير مما كان يعيبه عليه بعض المثقفين إثباتا وبرهنة على أنه ليس ضد الثقافة اليهودية ابتداء من ترميمه للآثار اليهودية، خاصة المعبد اليهودى فى مصر وانتهاء باعتذاره الواضح والصريح فى أكثر الصحف الفرنسية انتشاراً «لوموند» عن زلة لسان، اتخذت ذريعة كما هو شأن المنهج الصهيونى دائماً يلتقط الذريعة الصغيرة ويتجاهل المواقف الكبيرة المخالفة لهذه الذريعة ولا ترى عيونهم إلا الهفوة وتغمض عن المبدأ العام للرجل ومواقفه، مما جعل الثقافة العربية والجنسية العربية هى المستهدفة، وهى التى يراد إبعادها عن رئاسة المنظمة التى تعنى بالعلوم والتربية والثقافة، وكأنه الخوف من أن يكون صوت الثقافة العربية وتأثيرها فى المنظمة له الفرصة، مع أن المنظمة تخدم أكثر مما تخدم العالم العربى والدول الإسلامية، فهذا العالم يقع فى معظم دائرة تأثير المنظمة، ولذلك يراد إبعاد أى رجل عربى لإبعاد أى تأثير وكتم أى صوت عربى مؤثر فى هذه المنظمة التى تخدم أكثر مما تخدم بلاد العرب والمسلمين، لذلك وضعت هذه التحديات كل من له صوت أو تأثير فى منظمة اليونسكو أمام اختبار شديد للانتماء للثقافة العربية. والغريب أن الثقافة العربية أكثر الثقافات عبر التاريخ تصالحا مع العالم، وأكثرها استعداداً حقيقياً للتفاهم مع كل الثقافات الأخرى فكتاب هذه الثقافة الأساسى ومصدرها الأول يجعل جوهرها العمل من أجل التعارف بين البشر «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا» (الحجرات 13)، ويجعل الناس جميعاً على اختلاف ثقافاتهم وأديانهم وأجناسهم إخوة «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيراً ونساء» (النساء 1) فالكل إخوة من أب واحد وأم واحدة. ولم يدخر فاروق حسنى جهداً فى تأكيد هذه المصالحة فى الثقافة وإعلان برنامجه على أساس التصالح بين الحضارات.. ماذا يراد أكثر من ذلك، لكن الذين يشعرون بازدراء الناس من غيرهم ومن غير ثقافتهم ويدعون أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه لا يقنعهم إلا الطمع فى السيطرة على مقدرات العالم. وإذا كانت هذه المعركة قد كشفت علاقة هؤلاء بالثقافة العربية وازدراء هذه الثقافة دون وجه حق، واختبرت انتماء أصحاب الأصوات المؤثرة فى انتخاب فاروق حسنى المنتمى رغم كل شىء إلى العروبة والثقافة العربية ليقفوا جميعاً معه لا تأييداً له بشخصه، بل تأييداً لثقافتهم وإعادة هذه الثقافة إلى وضعها الذى تستحقه بوصفها صاحبة تأثير على الحضارة الغربية التى ما كان لها أن تنهض لولا جرثومة النهضة والتقدم التى ابتدأ بها فلاسفة النهضة الأوروبية، تأثراً بالحضارة العربية فى الأندلس، فلعل ذلك يكشف للمنبطحين أمام التطبيع مع الصهيونية الطريق حتى يروا حقيقة الصراع بين هذه النزعة الصهيونية وحضارتهم الأصيلة. ولسنا بحاجة إلى تأكيد أننا لسنا ضد اليهود أو اليهودية، فنحن ندرس فى الأزهر الملة اليهودية وننصفها تماماً، وأنا شخصياً أدرس لطلابى فى الدراسات العالية والعليا فلسفة اليهود خاصة ابن جبيرول الإسرائيلى وموسى بن ميمون وفيلون وغيرهم، ونعنى بهذا التراث اليهودى عناية فائقة. لكن التعصب الذى بدا فى هذه المعركة معارضاً لظهور شخصية عربية تتولى إدارة منظمة التربية والعلوم والثقافة، خوفاً ووجلاً من أن تحدث الثقافة العربية أثراً فى العالم بهذه الشخصية أو أن يكون لشخصية عربية أثر. ثم إن موقف إسرائيل فى مواجهة مرشح مصرى عربى واشتراط الشروط القاسية لكى ينفذها هذا المرشح حتى يحظى بالرضا من أن تكون لإسرائيل عضوية ضمن الثمانية والخمسين صوتاً التى تختار مدير اليونسكو واشتراط مواقف معينة مع الثقافة الإسرائيلية يجعلنا أكثر إيماناً بطموح إسرائيل وتشوقها لأن تضع نفسها بإزاء مصر، ذات الثقافات العديدة والجذور البعيدة الضاربة فى عمق التاريخ، إسرائيل فى مواجهة مصر أمر يستحق الدراسة، رغم كل الظروف الوقتية سبعة آلاف وتزيد من الحضارة والثقافة فى مواجهة لحظة تاريخية قصيرة من عمر الزمن إنها تستفز كل مصرى يبذل ما يستطيع لاستعادة جذوره وحضارته هناك فى اليونسكو فى باريس وما وراء اليونسكو وباريس. وأغرب المواقف، الموقف الأمريكى الذى يدعم اتجاه إسرائيل فى هذه المعركة الحضارية والثقافية، كيف نفهم أمريكا هل هذه أمريكا التى نراها فى اليونسكو هذا الأسبوع، هى أمريكا التى رأيناها فى جامعة القاهرة على لسان أوباما. كان لسان أوباما متصالحاً مع الحضارة العربية والمسلمين، ولكن اللسان الأمريكى والفعل الأمريكى فى اليونسكو ضد اللسان الأمريكى فى جامعة القاهرة فى الخطاب الذى ألقاه أوباما بدعوة من الجامع الأزهر وجامعة القاهرة، وإذا كانت المؤسستان الأزهر وجامعة القاهرة تمثلان الثقافة العربية فهل تخذل أمريكا الثقافة العربية وعلاقة أمريكا بمصر والعرب، أى اللسانين الأمريكيين سيمحو الآخر؟!