للصدمة ما يبررها.. ولغضب الرأي العام المصري والعربي تفسير جلي لا يستطيع أحد أن يتغافل عنه.. بل إن أشد المختلفين مع منهج الوزير فاروق حسني لا يمكنه أن يمرر ما جري سرا في كواليس منظمة اليونسكو وعلنا في مسارحها وأروقتها.. التي لم تشهد من قبل أي معركة انتخابية بهذا التلوين السياسي كما جري في الأسبوع الأخير.. وقبل أن تنجح الولاياتالمتحدة ومعسكر تابع لها في اسقاط المرشح الممثل للحضارة العربية.. وهو هدف كان بالنسبة لها أهم بكثير جدا من عملية انجاح المرشحة البلغارية ايرينا بوكوفا. أتفهم تماما وضوح المواقف المعلن من قبل واشنطن في هذا الملف.. وأعرف عن يقين أن الولاياتالمتحدة أبلغت مصر عبر قنوات مختلفة أنها كان يمكن لها أن تؤيد أي مرشح مصري آخر غير فاروق حسني.. وأن الموقف لا يتعلق بكونه مرشحا مصريا ولكن بالجدل الذي احاط به هو وبما اعلنه من تصريحات.. ولكن ما جري في الفترة الاخيرة السابقة علي التصويت النهائي الذي انتهي ب27 صوتاً لفاروق حسني مقابل 31 صوتاً لإيرينا بوكوفا تجاوز حدود الاعتراض علي فاروق وعدم تأييده إلي العمل الكامل المتآمر علي اسقاطه بغض النظر عمن هو المرشح المنافس. - خيول الرهان إن متابعة سير المعركة، وتعدد المرشحين المفترض فيهم أنهم يمثلون المعسكر الحضاري الآخر، بحيث لم يكن هناك فرس رهان واحد.. بل الكثيرات.. دون تقيد بمواصفات تؤهل هذه للمنصب.. أو خصائص مشروع تتبناه تلك يمكن أن يؤدي إلي إصلاح حال المؤسسة الثقافية الأهم في العالم.. أو رؤية مفهومة للمرشحة أو المرشح.. واعتقد أنه حتي اللحظة قبل الاخيرة لم يكن هناك ما يؤكد أن هذه المرشحة أو تلك هي التي يتم السعي وراءها أوروبيا وأمريكيا لكي تكون منافسا حقيقيا لفاروق حسني.. فالهدف كان إسقاطه ولو ظل مقعد مدير عام اليونسكو خاويا لسنوات مقبلة.. المهم ألا يشغله هو. ومن المؤكد أن علاقات الدول، خاصة حين تكون استراتيجية، لا يمكن أن تتأثر جوهريا، بملف مثيل، وبالتالي فإن ما بين الولاياتالمتحدة ومصر سيتجاوز، لأسباب لها علاقة بالمصالح، هذا الأمر.. خاصة أن الموقف الأمريكي فيما يخص فاروق حسني كان واضحا.. لكن ما سوف يتأثر هو الظهير الشعبي الذي يعضد تلك العلاقة ويمثل غطاء جماهيريا لها.. وأعتقد أننا سوف نبقي لوقت طويل كمواطنين وكرأي عام وكصحافة وإعلام ننظر بعين من القلق وعين متقدة بالغضب لكلام المسئولين في مصر عن هذه العلاقات الاستراتيجية.. بينما نذكر كيف حاربت الولاياتالمتحدة مرشحنا وسعت إلي تدميره واغتيال شخصيته وليس فقط حجب تأييدها عنه.. بغض النظر عن ملاحظات أي منا علي فاروق حسني نفسه. - الضغط في آخر لحظة هذه كانت حرباً.. ثقافية وحضارية.. وإذا كانت المواقف الإسرائيلية مبررة.. ومواقف المنظمات اليهودية العالمية منطقية.. فإن من غير المفهوم أن تتحول الولاياتالمتحدة إلي أداة في يد الاثنتين.. الدولة والمنظمات.. وإذا كان من المتوقع أن تذهب المنظمات اليهودية العالمية إلي أبعد مدي في حربها ضد فاروق حسني.. وإذا كانت إسرائيل في الثلاثة أشهر الأخيرة قد تخفت وراء أستار متنوعة في معركتها ضده.. فإن ما فاجأ الجميع هو أن يتم استخدام الأدوات الدبلوماسية الأمريكية بهذه الطريقة الفجة والقبيحة لصالح تحقيق الاهداف اليهودية.. بحيث نشك جوهريا في مصداقية أي دعوة يتم ترديدها لحوار بين الحضارات. لقد قال ممثل لأحد دول أمريكا الوسطي مندهشا ومتعجبا لأحد المسئولين المصريين أنه حتي صباح يوم الثلاثاء الماضي، يوم التصويت الخامس والاخير علي أي من المرشحين سيكون له أن يفوز بالمنصب، كانت الولاياتالمتحدة تمارس أقصي وأقسي مستوي من الضغوط.. علي الدول وبما فيها ممثل تلك الدولة من امريكا الوسطي.. كما لو أن القرار قيد التصويت سوف يغير شكل العالم ويعدل من طبيعة النظام الدولي. بدا الأمر كما لو أنه معركة حياة أو موت.. فاروق حسني يجب أن يسقط بأي ثمن.. ولو كان الثمن هو الاطاحة بالمرشحة النمساوية التي قادت أشرس معارك حياتها ضده في أفريقيا وفضائها الدبلوماسي.. وصولا إلي حد التلويح بأنها يمكن أن تمنع عن الدول التي سوف تصوت لفاروق حسني المساعدات الأوروبية بحكم كونها ذات موقع مسئول في الاتحاد الأوروبي. - أوباما و9 أشهر وتطرح هذه الحالة تساؤلات جوهرية.. حول أمور عديدة.. في إطار التحليل الأولي للمعركة وخلفياتها.. ودون أن ينفي ذلك وجوب أن نناقش الأمر فيما بعد بتفصيل أعمق وأشمل (اقرأ مقال رئيس التحرير في العدد الأسبوعي من روزاليوسف يوم السبت): - لقد أعلنت الولاياتالمتحدة موقفا من فاروق حسني كمرشح لليونسكو خلال عهد الرئيس بوش.. ويمكن بمزيد من التساهل وغض الطرف أن نقبل فكرة أن الإدارة الجديدة لم يكن لها أن تغير موقف الإدارة السابقة.. ولكن تسعة أشهر مرت بالفعل علي وجود إدارة أوباما في مواقعها.. وبالتالي فإن الموظفين التابعين للمحافظين الجدد وأنصار سياسة جورج بوش تركوا أماكنهم.. وجاء غيرهم.. ولم يكن مطلوبا أن تؤيد الولاياتالمتحدة مرشحنا.. ولكن علي الاقل كان يمكن لطاقة الرفض أن تنخفض.. وكان يمكن للرفض ألا يتحول إلي خطة محكمة للإسقاط وعملية عمدية للقضاء المبرم علي المرشح.. فهل هذه هي توجهات الرئيس أوباما وادارته أم أنه يواجه مقاومة من المؤسسة المحيطة تمنعه من أن يبسط نفوذ رؤيته؟.. هذه مسألة لابد أن نجد إجابة لها. - هل ما جري في اليونسكو يتسق مع خطاب الرئيس أوباما في جامعة القاهرة.. مع توجهاته التواصلية.. والجسور التي شرع في مدها مع المسلمين عبر خطاب أنا وصفته وقتها بأنه أكثر من رائع ويمثل تحولاً تاريخياً.. وقال الكثيرون حول العالم الاسلامي إنه مميز وانه قول جميل ينتظر فعلاً يؤدي إلي تطبيقه واقعيا.. لقد تأخرت الافعال0 إلي أن وجدنا أمامنا هذا السلوك العجيب جدا ضد مرشح من نفس الحضارة التي خاطبها أوباما.. فهل هذه فعلة أوباما.. أم أن هناك من يحاول اسقاط توجهاته.. أو إظهاره علي أنه لن يستطيع أن ينفذ شيئا مما قال في الخطاب؟.. هل هذا هو أوباما الحقيقي.. أم أن هناك من يدمر الجسور التي يمدها إلينا؟ - لغز السفير لقد انتبه الكثيرون وضجت الصحف في مصر، والتهبت القنوات بين الدول من التصرفات التي مارسها مندوب الولاياتالمتحدة في منظمة اليونسكو.. كيللون.. وقيل إن الرجل يتصرف بما يتجاوز حدود أي عرف دبلوماسي يمكن مصادفته في أي تنافس أو حتي معركة بين الدول.. وفي بعض الأحيان قيل إن السفير يتصرف بما يتجاوز حدود التعليمات الصادرة إليه من إدارته وهي عدم تأييد فاروق حسني فقط.. ولكن هذا لم يمنع كيللون من أن يمضي إلي أبعد نقطة وأن يجري اتصالات شخصية مطولة مع كل أعضاء المجلس التنفيذي للمنظمة تقريبا.. ليس لكي يؤيد مرشحا آخر.. وإنما لكي يسقط فاروق بأي شكل. في عالم الدبلوماسية هناك بالطبع هامش تحرك يمكن لأي سفير أن يمارس فيه دوره وفق رؤيته.. ولكن دائما هناك مساحات محددة لا يمكن تجاوزها.. فهل كان كيللون يتجاوز وبالتالي يمكن القول إن الإدارة في واشنطن لا تسيطر علي موظفيها المهمين.. أم أنه لم يكن يتجاوز وكان يمارس دوراً في مساحة متفق عليها وأن التعليمات تجاوزت ماهو معروف ومعلن في الأوساط؟ إن وصول كيللون نفسه إلي منصبه هذا قبل أسابيع من التهاب المعركة علي المنصب الدولي.. هو في حد ذاته علامة استفهام كبيرة.. جدا.. خاصة انه شخص قضي أغلب عمره في خدمة السيناتور الأمريكي الراحل توم لانتوس.. وكل مواقفه (السيناتور ومن عمل معه) المؤيدة لإسرائيل معروفة.. وكل عدائه لمصر غير ممكن التستر عليه.. فلماذا اختير هذا السفير دون غيره الآن؟ - إن الرسالة التي بلغت الرأي العام المصري والعربي يوم الثلاثاء والمبعوثة من نتائج تصويت باريس تقول بوضوح إن التواصل الحضاري هو مجرد شعار دعائي.. وأن حوار الثقافات هو كلام للاستهلاك.. وأن الحرب الحضارية واقع لا مفر منه.. وأن كل من يتكلم عن نقاش بين الأمم لا يمكن أن يسمع له صوت في الشرق طالما أن الغرب يقوم بمثل هذه الأفعال.. ولا يستطيع أن يتنازل عن هذا المنصب الدولي الذي لا يمثل قيمة كبيرة للغاية.. لمرشح مثل فاروق حسني.. الذي يواجه ما يواجه يوميا من كل تيارات التطرف الديني في الشرق.. فكيف إذا لم يكن بإمكانهم أن يقبلوا فاروق حسني كيف يمكن أن يقبلوا تنوعات أمة العرب والمسلمين الأخري وفيها مضاعفات ذلك؟ - ماذا تريد إسرائيل؟ الملاحظة الإضافية في هذا السياق.. تتعلق بإسرائيل والمنظمات اليهودية.. فالتصرفات التي أظهرتها هذه وتلك خلال المعركة.. اعتراضا علي ما كان قد قاله فاروق حسني بخصوص الكتب الإسرائيلية والتطبيع الثقافي.. وهذه الحملة الشرسة التي بلغت حد الكتابة شبه اليومية طيلة الشهر الأخير في الصحافة الفرنسية وعديد من منابر العالم.. تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن إسرائيل ويهود العالم لا يمكنهم أن يتيحوا فرصة للتفاهم مع الشعوب الأخري.. بل انهم يخوضون معاركهم تلك بما يوحي أنهم شخصيا ضد التطبيع الذي يطالبون به. بمعني أوضح، إسرائيل ومنظمات اليهود خاضوا حربا انتقامية لإبعاد فاروق حسني.. واسقاطه.. وإبلاغ العرب والمسلمين رسالة مؤداها أن كل من قال بمثل ما قال فاروق حسني سوف يتعرض لحملة مثيلة.. اقصائية واستبعادية وتكاد تكون دموية.. حرب ليس مؤداها أن يغير فاروق حسني أو من يقول بمثل ماقال من توجهاته.. وإنما القضاء عليه لانه قاله.. وهذا منطق ضد فكرة التطبيع نفسه المعني هنا هو أن اليهود يمارسون الإرضاخ الذي يسفر عن تشويه وعن اغتيال معنوي.. يعملون بمنطق الاحتلال الثقافي للعالم.. كما لو أنهم يمارسون المكارثية علي نطاق دولي.. ولا يسعون إلي تسويق فكرة التطبيع ومنطقه.. هذا نوع من الإرهاب الفكري والثقافي الذي لا يختلف برمته عن أي إرهاب آخر تمارسه إسرائيل علي مدار الساعة في أرضنا العربية المحتلة. لقد كسبوا المعركة.. أسقطوا فاروق حسني.. ولكنهم أيضا سقطوا.. وارتكبوا حماقة تاريخية جديدة لا يمكن لها أن تنسي بين يوم وليلة.. ولا يمكن أن تؤدي إلي تغيير نتائجها عشرات من حملات الدبلوماسية العامة.. وكلام الإعلام الأمريكي والأوروبي.