فى أيام المغفرة والرحمة – فى رمضان – فقدت جدتى، رحلت بلا مرض بلا عذاب، وكأنها عصفور طار من بيننا فجأة، وعلى الرغم من حزنى الشديد على جدتى التى شاركت امى فى تنشئتى، فإننى أحمد الله كثيرا أنه حبانى بجدتين.. ربما من عالمين متباعدين، لكنهما فى جملة قصيرة حملا تاريخ هذا الوطن وورثاه لنا . فجدتى لأبى، هذه الأم الفلاحة القديمة، زوجة شيخ البلد لم تكن – كعادة أهل الريف – تحب البنات وكان قدومى – البنت البكر لأبى - حدثاً غير سعيد على أسرة الحديدى المليئة بالبنات. من جدتى «بهية» سمعت الأغنية الشهيرة: «لما قالوا ده ولد اتشد ضهرى واتسند.. لما قالوا دى صبية طربقوا الفرن عليا». وكأنها كانت دائماً تعلى من شأن الصبية، وتعلمنا أن قدرنا هو «طربقة الفرن» على رؤوسنا. من هذه الجدة الفلاحة تعلمت الصلابة والقوة وشدة البأس، التى كان أحيانا ما يصفها والدى - رحمه الله - بالقسوة فى حكاياته. أما جدتى لأمى التى توفيت مؤخراً، فكانت من الدنيا الأخرى.. ابنة أحد كبار أثرياء البلد وأحد مؤسسى بنك مصر إسماعيل بك عبادة، والتى عاشت كل المتناقضات، فقد عاشت عصور الثراء ثم تزوجت ضابطا فى الجيش.. جيش الملك الذى أصبح بعد ذلك جيش الثورة التى أممت أسرتها وأضاعت ثروة عائلتها. كانت جدتى «سيادة» كنزاً من الحكايات والتاريخ، فتارة تحكى لنا عن المدرسة التى تعلمت فيها ومغامراتها الشقية مع شقيقتها، وتارة حكايات الفنانين فى استديو جلال الذى كان يقع قبالة بيتهم، وكيف كانت آسيا داغر المنتجة الشهيرة تنهر يحيى شاهين من الوقوف أمام الفيلا ومعاكسة بنات إسماعيل بك وإلا سيغلق لها الإستديو. وتارة عن قصة الكفاح الطويلة مع جدى الذى تدرج فى سلاح الجيش حتى أصبح قائد مهمات وانتقل من رفح إلى الإسماعيلية إلى القاهرة فى حروب مصر المختلفة. وحكايات جدتى كلها مليئة بالأسماء التى صنعت التاريخ: طلعت باشا حرب، عبود باشا، المشير عامر، برلنتى عبدالحميد، أنور السادات. فكانت كل حكاية تقصها على كنزا، وهى لا تعرف ذلك. وكنت كثيراً، خاصة فى أيامها الأخيرة، أجلس إلى جوارها وأطلب منها أن تتذكر وتحكى وتحكى، حتى تتعب، وكأنى أشعر أننى لن أسمع تلك الحكايات مرة أخرى. وكانت صورة الرئيس عبدالناصر المعلقة على جدران مكتب جدى هى سبب أول شجار سياسى وعيت عليه فى سنوات عمرى الأولى بين جدى الذى يدين بالولاء لجيش الثورة، وأسرة جدتى التى أضاعت لها تلك الثورة أملاكها. لم أكن أفهم فى البداية لحداثة سنى، لكنى مع الوقت عجبت كيف استطاعت هذه المرأة أن تجمع بين المتناقضين وتؤلف بين العالمين بهذه السلاسة! ولأنها كانت جدة صغيرة السن، ولد أول أحفادها وهى فى الثلاثينيات فى العمر، فقد شاركت فى تربية جميع أحفادها، وكثيراً ما كنت أقيم فى بيتها لأشهر طوال، بينما تستعد أمى لامتحان الثانوية العامة أو امتحانات الجامعة. كنت وقتها ألتصق بها كأمى وأخاف منها أكثر من أبى، وأتعلم منها دون أن أدرى كل شىء.. بدءاً من أصول الحياة، حتى «نقش» كعك العيد كل عام.. وكانت عادتها المحببة إليها فى شبابها. رحلت جدتى فى أيام المغفرة.. رحلت هذه المرأة الراضية جداً التى ربما لم أر فى حياتى إنسانا يحمل كل هذا الرضا فى نفسه كما رأيتها. رحلت هذه المرأة القوية التى ورثتنى تلك القوة كما لم تورثها لأحد من أحفادها.. «سيادة هانم».. سأفتقد ابتسامتك الراضية، ضحكتك المجلجلة.. وحكاياتك التى لا تنتهى. قد تكون الحكاية انتهت – كما سنقضى جميعاً- لكنك انت باقية. بعض الأمهات لا يرحلن.. [email protected]