كان الأخ اللواء الأول «محمد مالك بونجو» - الرئيس الحالى والسابق والأسبق والأوحد لجمهورية «بونجوستان التعاونية الانغلاقية العظمى» - يحتفل باليوبيل الذهبى لثورة «القافل من ستة لتسعة». وقبل أربع وعشرين ساعة من إطلاق شرارة الحفل.. استدعى فخامته رئيس الديوان، وأبلغه أن حفل هذا العام سيكون تنكرياً على غير العادة، وسيقام - لأول مرة - فى ساحة «القبر الوطنى»، وهى حديقة شاسعة يتوسطها مدفن جده الأعلى «سيسيسيكو هايوريكو»، ويحيط بها سور حجرى رهيب، يرتفع قرابة الخمسين متراً، ويصل طوله إلى أربع محطات أتوبيس، بينما يصل العرض إلى ثلاث. وجحظت عينا رئيس الديوان عندما أمره اللواء الأول بفتح ساحة القبر أمام جميع أبناء الشعب البونجوستانى، بشرط أن يتقنعوا جميعاً ب«وجه معزة»، وأن يبدأ كل منهم مراسم الحفل بالوقوف أمام قبر جده، وقراءة الآية الكريمة (والأنعام خلقها لكم) تسعاً وتسعين مرة. وبينما يراوح الحضور بين الأكل والبحلقة، وصخب الموسيقى يصم الآذان، رفع اللواء الأول ذراعه اليسرى (إذ كانت اليمنى شُلَّت إثر محاولة اغتيال فاشلة) فخيم على الساحة صمتٌ كصمتِ الضريح. وبعد ثوانٍ أعلن - من فوق مقعده المتحرك - أن الفرصة أصبحت مواتية لإشراك أبناء شعبه الطيب المسالم فى أمر موجع، يلح عليه آناء الليل وأطراف النهار، ولابد من حسمه، فبعد خمسين عاماً قضاها فى سُدة الحكم (والسُدَة تعنى باب البيت)، بدأت ب«يسقط الاستعمار» نفطاً واستثماراً على سدته المباركة، وانتهت ب«تسقط العروبة» حمماً وغضباً من المولى على رؤوس أهل البيت.. أتت شجرة الديكتاتورية أُكلها، وطرحت ابناً متفرنجاً، أعد رسالة دكتوراه، انتقد فيها أسلوب أبيه فى الحكم (أبوه الذى فتح له كل خزائن بونجوستان، ليغرف ويلهط ويبيع ويشترى)، ووصف كليهما - الأب والأسلوب - بأنه والعياذ بالله «غير ديمقراطى». كما وصف حكومة بونجوستان العظمى بأنها «مستبدة ومتسلطة ولا تمثل شعبها».. يعنى باختصار: ملوخية بالأرانب!. ■ ■ «يا حفيظ».. تمتم أحد الحضور وضرب كفاً بكف، وقال مستنكراً: «إما أن هذا الولد أفسده الدلع وهو (نُغة)، فلما شب عن الطوق لوح الجحود نفسيته، وقرر أن يزرع وسعاية السدة - لثقته الكاملة فى كونها آيلة إليه لا محالة - بطائفة منتقاة من أندر وأغلى زهور الديمقراطية.. وإما أن الأمر لا يعدو مجرد رواسب (حصبة ثورية) قديمة تلح عليه من آن إلى آخر، فتجعله يفرفر ويخترف، معتقداً أن الشعب البونجوستانى شبع ونضج وبدأ يشعر أن نار التغيير أهون عليه من جنة الاستقرار. وقد لا يكون فى الأمر دلع أو رواسب حصبة، بل مجرد تجلٍ لمقولة (الولد سر أبيه)، حتى - وبالذات - لو تجاوزه علماً ودهاء». على كل حال.. أيقن الحضور أن ثمة ريحاً صرصراً ضربت سدة الحكم بالفعل، وأن استقطاباً حدث.. بحيث أصبح للأب رجالات - «حرس قديم» كما اصطلح عليهم - لم يتخلوا عن إيمانهم المطلق بأسلوب حكمه وبنهج ثورته، واعتبروا بقاءه فى السدة رمزاً سيادياً حتى إذا كان مجرد «عضم فى قفة»، فيما أصبح للابن هو الآخر «صحبته الروشة»، المؤمنة بال«فيس بوك»، والكرة الأوروبية، وعلاقة هوليوود بال«سى. آى. إيه»، التى لا ترى فى تفكيك بونجوستان وبيعها بربع الثمن حرجاً أو إضراراً بسيادتها أو أمنها القومى، ولأن الضنا غالى، والشعب البونجوستانى «فيه اللى مكفيه»، ولن يتحمل صراعاً يبدو وشيكاً بين أسلوبين فى الحكم، أحدهما انغلاقى بطريركى والآخر إصلاحى تفكيكى، فقد غافل اللواء الأول جميع العاملين فى بلاطه، وتسلل تحت جنح الظلام، قاصداً خرابة فى جوف الصحراء يقال إن جده الأعلى كان يخبئ فيها غنائم المقاومة إبان فترة الاحتلال، ثم أصبحت بعد الاستقلال قبلة للباحثين عن الحكمة. كان اللواء الأول يبحث فى ليل الخرابة عن «فكرة مطرقعة»، تقطع الطريق على ابنه من ناحية، وتحفظ لبونجوستان كبرياءها واستقرارها من ناحية أخرى. وما إن تبين له الخيط الأبيض من الأسود حتى طرقعت الفكرة على قفاه، فعاد إلى سدة الحكم وقد اتخذ قراره المزلزل بأن يكون الأسبوع ستة أيام فقط، إسهاماً منه فى زيادة عمر الشعب البونجوستانى، ومن ثم الإيحاء بأنه نضج واستوى وأصبح جديراً بالديمقراطية. وتأكيداً لذلك قرر إجراء استفتاء عام لاختيار اليوم الذى ينبغى حذفه من الأسبوع، فاختار البونجوستانيون «الثلاثاء»، واختار اللواء الأول يوم «السبت»، فى حين وقع اختيار الابن على يوم «الجمعة»، وهكذا وقعت بونجوستان من جديد فى قبضة فوضى أكلت الأخضر واليابس.