أنظر حولى أرى المصريين محبطين مهزومين، أغلبهم من الفقراء المهمشين، وتسود الأمية بينهم وينهش المرض جسدهم، فرصتهم فى التعليم كانت معقولة ثم أصبحت محدودة والآن أصبحت مستحيلة، فرص الحراك الاجتماعى للعائلة المصرية الفقيرة التى كان يخلقها تعليم الطالب المتميز ضاعت وأصبحت الطريقة الوحيدة للحراك الاجتماعى هى السرقة والنصب والبلطجة وتداخل الفساد فى السياسة والسياسة فى الفساد، فالكثيرون من رجال الحزب الحاكم ورؤساء لجانه فى مجلس الشعب هم خريجو هذه المدرسة وسجلهم الإجرامى فى حق الشعب معروف ومكتوب ومسجل ولايزال مسلسل فسادهم مستمراً بنفس القوة. أرى الكثيرين من أغنياء مصر الجدد قد انفصلوا عن جسدها وأقاموا مستعمرات جديدة داخل الوطن وأصبحت مشاكلهم مغايرة لمشاكل الوطن وأحلامهم ليس لها علاقة بمصر ومستقبلهم أصبح خارج حدودها ومشاكل مصر ليست مشكلتهم لأنها لم تصبح بلدهم وإنما هى بقرة يحلبونها ويصفون كل قطرة فيها. أرى الكثير من مثقفى مصر وأساتذتها وأطبائها ومهندسيها قد أصبحوا فى واد والوطن ومشاكله فى واد آخر، كل يغلق بابه على نفسه ويعمل ليكسب قوت أولاده أو ينمى ثروته، يرى الفساد ينخر فى جامعته أو مصنعه فيغض الطرف «ولا من شاف ولا من درى» يتركونهم يهدرون كل القيم ويدمرون المفكرين والجادين فى خدمة الوطن ولا أحد يدافع أو يتكلم. ماذا حدث لقادة هذا الوطن الذى كانت تهتز أرجاؤه بكلمة منهم؟ لماذا يصمتون؟ أهو الخوف أم التواكل أم اللامبالاة، تصوروا لو وقف ألفان من الأساتذة من بين عشرة آلاف تحت القبة فى جامعة القاهرة وقفة صامتة ساعة واحدة احتجاجاً على فساد حدث أو ظلم وقع، لتغيرت الجامعة وتغيرت مصر، ولكن ذلك لا يحدث. هل فعلاً انسحقت الشخصية المصرية؟ يقول البعض إن آلة التعذيب الجهنمية في المعتقلات لسنوات فى الستينيات، التى طالت أساساً الشيوعيين والإخوان المسلمين، قد أصابت الشخصية المصرية فى مقتل، ويقول آخر إن الحكم البوليسى تحت قبضة الأمن الذى يتجسس على كل مواطن ويراقب كل تليفون بحق وبدون حق ولا يحترم حكم القضاء قد أصاب المصريين بالهلع والرعب. إن المواطن المصرى يرى بعينيه الانتخابات تزور علناً ونهاراً جهاراً ويعلم ذلك كل إنسان بدءاً من الرئيس وحتى أبسط مواطن دون أن يهتز جفن لأحد حاكماً كان أو محكوماً، لأن الجميع فقد الأمل فى الإصلاح أو مات من حجم السخرية أو وافق على أن الحاكم من حقه تزوير الانتخابات وأن يبيعه ويشتريه. أنظر إلى الإنسان المصرى حامل الحضارة لآلاف السنين والذى كان المعلم والمدرس والمهندس والطبيب والفنان المؤثر فى العالم العربى ذهب إلى العمل فى بلاد البترول وعاد يلبس زياً مختلفاً ويفكر بطريقة مختلفة وتوارت حضارته القديمة خلف طبقة من النفط بعد أن كان أبوه وجده يذهبان ويعودان كما ذهبا بعد أن يكونا قد زرعا نبتة تقدم ومدنية هناك. أرى الشعب المصرى المتدين بالفطرة والذى كان متديناً حتى قبل نزول الأديان السماويه وأصبح مسيحى ثم مسلماً فى غالبيته فتمسك بدياناته الجديدة واستمر كما كان فى علاقته الوثيقة بربه وبدينه، فجأة أصبح التدين معظمه مظهرى وبعد أن كان العمل كما كان يقول آباؤنا فريضة أصبح مهملاً وأصبح ترك العمل فى عز النهار للصلاة فى الجامع لمدة طويلة شيئاً عادياً ولا يهم من تتعطل أعماله وأصبح الكلام فى الدين هو التدين وليست العلاقة السامية الشفافة مع الرب. أرى الوزراء جميعاً فى موقف الذليل المنكسر أمام الرئيس لا يفتح أحدهم فمه بكلمة ولا يبدى رأياً إلا تمجيداً لما يقوله الرئيس وتغنياً بحكمته. أرى المعارك بين الناس على أشياء هامشية بينما قضية الوطن ومستقبله تتوارى، أرى الزرع الأخضر الذى ارتوى بماء النيل آلاف السنين يرتوى بمياه المجارى لينشر الأمراض والسموم فى أجساد المصريين المنهكة. أرى القضاء المصرى صاحب التاريخ العظيم يخترق بواسطة زبانية النظام والزمن وكذلك التطرف وأرى رجال الأعمال لا يخجلون من محاولة تدمير مستقبل مصر فى إنتاج الكهرباء من الطاقة النووية بعد أن جفت مصادر البترول وتم بيع الغاز بعقود طويلة بأبخس الأثمان ويريدون أن يأكلوا أرض الضبعة كما أكلوا اللحم الحى لشعب مصر البسيط. بعد أن دب اليأس فى نفسى من أن يدافع شعبنا عن نفسه وعن حقه فى الحياة عدت إلى صديق الأزمات والإحباطات الراحل جمال حمدان أنهل منه كلما اهتز يقينى بأن هناك أملاً، فرأيته يدحض بشدة نظرية أن مصر أطول مستعمرة فى التاريخ لأن مصر كانت مستقلة أكثر من 70٪ من تاريخها وهى فترة أطول من إنجلترا المستقلة ويدحض نظرية الشيخوخة المبكرة لمصر ونظرية المقاومة السلبية للمصريين وهى تلك النظرية الانهزامية ويعدد ثورات المصريين الكثيرة عبر التاريخ ويدحض نظرية أن المصرى فلاح غير محارب ونظرية أن موقع مصر سبب كوارثها، كل ذلك بسلاسة وحقائق دامغة، عاد إلىَّ الأمل فى أن تنهض مصر ضد الظلم، والاستعباد والتخلف والرجعية، وبعد أن كانت قناعتى بأن مصر قد خرجت فعلاً من التاريخ والجغرافيا والحياة أيضاً، أعاد إلىّ ابن مصر العالم الجميل (الذى مات اكتئاباً على حالها) الأمل وأقنعنى بأن مصر فى داخل التاريخ ولن تخرج منه أبداً. «قم يا مصرى، مصر دايماً بتناديك».