فى الطريق الضيق الممتد حتى نهاية البصر صعوداً بالسائرين فيه، تعلمت مبادئ «التسكع الحميد»، الذى يمنح المرء فرصة الاقتراب من الأماكن والأشخاص والأشياء، وتأملها بقدر كافٍ من الوعى والدهشة، لترسخ بعدها فى مخزونه الوجدانى فلا يمحوها الزمن. «الدرب القبلى».. هكذا كانوا يسمون ذلك الطريق أبناء قرية «سربو»، التابعة لمركز «سمسطا»، أقصى جنوب غرب محافظة بنى سويف، وهى كما ترى من فرط غرائبية الأسماء ذات الجرس «القبطى- الفرعونى»، ترسخ اليقين لديك بأنها حواضر موغلة فى القدم.. تضرب بجذورها فى قلب الزمان والمكان. فى رمضان من كل عام، ومنذ كنت دون العاشرة من عمرى، كنت أقطع ذلك الدرب سيراً أو بالأحرى متسكعاً، إلى الموقع القديم للقرية، حيث كانت تقيم عمتى «فاطمة»- يرحمها الله- تلك الأرملة المسنة التى لم ترزق بأبناء رغم زواجها بابن عمها زهاء ثلاثين عاماً، حتى لقى ربه قبلها. أما بيت أبى رحمه الله، فكان فى المنطقة الجديدة بالقرية التى خرجت من «كمكمة الدروب» إلى فسحة الحقول وبراح التخوم، وكان رحباً لدرجة لم تعد قابلة للتكرار، ومع ذلك رفضت عمتى الانتقال للحياة مع أخيها (أبى) وزوجته (أمى)، التى هى أيضاً بنت خالها، وطالما تهربت من مناقشات لإقناعها بالعيش معنا، وحين كان أبى يحتد ترد بحسم وأدب جم: «خلينا إخوات» وتبتسم وتمضى بعد زيارات خفيفة ومتباعدة. وسط زحام التدافع فى مدينة متوحشة كالقاهرة، يحدث أن يتوقف المرء مع نفسه أحياناً ليرصد حصاد الرحلة، فأجدنى مقتنعاً بأنه يحق لنا نحن أبناء القرى والنجوع والكفور التباهى بأننا لم نخذل أحلام ذوينا، فمن أول رئيس تحرير هذه الصحيفة حتى رئيس الجمهورية، ومن زويل لمجدى يعقوب، كلهم نشأوا فى قرى مصر ونجوعها، وسلكوا ذات الدروب الطويلة بدأب وصبر، لأنهم باختصار «كائنات ضد الفشل». عودة لعمتى «فاطمة» وحين كنت أسير فى جنازتها المتواضعة، شعرت أننى أشيع زمناً بكل تفاصيله، وكنت قد بلغت من العمر حداً أدركت فيه أن هذه السيدة علمتنى دون أن تقصد أهم دروس العمر: كيف يمكن أن تكون فى كل مواقفك واضحاً بلا تمييع، وأيضاً دون الانزلاق للمهاترات، بل تبقى مستمسكاً بالأريحية والسلوك المهذب المتحضر، باعتبارها المعايير التى تميزنا عن القرود. يوجعنى اليوم أننى مضطر لاعتياد غيابهم جميعاً وحين أعود لذلك البيت العتيق ولا أجد أحداً ممن أحببتهم فيه، أتذكرهم فأبكى فى صمت، وأجتهد ألا يكتشف أحد ما يجول بخاطرى فلم يعد هناك خيار سوى التسليم بأن أرواحهم تحلق على بعد مئات الأميال من منزلى القاهرى الذى لا يحمل أى ذرة من عبق الدروب، بل يبتعد مسافة أقطعها مرتين سنوياً على الأكثر، هى مسافتى إليهم، إلى منازل الصبا حيث يرقدون فى سلام: عمتى وأبى وكل رفاق الدرب وبقايا أحلام تتبعثر من يدى [email protected]