وجد كينى ماكاسكيل، وزير العدل الأسكتلندى، نفسه فى موقف لا يحسد عليه بعد قراره الإفراج عن عبدالباسط المقراحى، ضابط المخابرات الليبية السابق وباق من عقوبته 18 عاما.. حُبس بحكم محكمة جنائية أسكتلندية بتهمة تفجير طائرة «بان إم»، الرحلة 103، فوق مدينة لوكيربى الأسكتلندية عام 1988، متسببا فى مصرع 270 من ركاب الطائرة وسكان المدينة الهادئة. جاء القرار فى إطار قوانين يصعب على عتاة المحامين تفسير كيفية تطبيقها مما جعل ماكاسكيل ليس فقط هدفا لانتقاد الرئيس الأمريكى باراك اوباما والرأى العام الأمريكى، بل أيضا لحكم المؤرخين من أجيال قادمة خاصة أن الزعيم الليبى معمر القذافى أعد للمقراحى - وهو فى نظر العالم إرهابى سفاح - استقبال الأبطال واحتضنه بعكس تأكيداته للندن، فى مشهد استفزازى لأهالى ضحايا الطائرة. عندما انصاع الكولونيل القذافى لقرار مجلس الأمن قبل 10 سنوات وسلم المتهمين فى قضية لوكيربى للمحاكمة (خرج زميل المقراحى براءة لضعف الأدلة ضده) وكشف عن برنامجه النووى لتجنب مصير صدام حسين، قبِله المجتمع الدولى، ووقع مع بريطانيا اتفاقية انتقال المساجين، بحيث يمكن لبريطانى فى سجن ليبى قضاء بقية المدة فى سجن فى بلاده والعكس. وجد ماكاسكيل أمامه طلبا بنقل المقراحى لقضاء بقية المدة فى سجن ليبى، بينما كان أمام محكمة الاستئناف الأسكتلندية طلب من المقراحى بإعادة المحاكمة بدعوى ظهور أدلة جديدة. المقراحى لايزال مستمرا فى نفيه أى ضلوع فى الحادث. كثير من الساسة والمراقبين غير مقتنعين بإمكانية نجاح المقراحى وحده فى تدبير الحادث، ويرون أنه كبش الفداء لمؤامرة تشمل دولا أخرى غير ليبيا، كإيران التى انتقمت لإسقاط الطراد الأمريكى فينسنس خطأ لطائرة ركاب ايرانية فى صيف 1988 فوق بندر عباس، بتكليف منظمة فلسطينية مقرها دمشق بعملية لوكيربى، مما يجعل سوريا ضليعة فى الامر. كما أن سحب المقراحى طلب إعادة المحاكمة أدى لدفن أى أدلة خفية كانت ستظهر فى المحاكمة الجديدة، ليزيد من شكوك المقتنعين بالمؤامرة الدولية. تنازل المقراحى عن إعادة المحاكمة مهد الطريق أمام سلطات العدل الأسكتلندية للإفراج عنه «لأسباب إنسانية» لإصابته بسرطان البروستاتا، وقدر الأطباء أنه سيموت فى خلال ثلاثة أشهر ومن الرحمة أن يموت بين أهله؛ فالعدل فوق القانون والرحمة فوق العدل حسب التقاليد «المتحضرة» بقول ماكاسكيل عندما استجوبه البرلمان الأسكتلندى الذى قطع العطلة الصيفية وانعقد لمحاسبة الوزير فى هذا الأمر الخطير. الأمريكيون، رئيسا وصحافة وأقارب ضحايا الطائرة بان إم، هاجوا مطالبين بمقاطعة البضائع البريطانية والسياحة الأسكتلندية. والأمريكيون يخلطون بين مفهومى الانتقام والعدالة التى تعنى عندهم السن بالسن والعين بالعين، كما استصعب عليهم استيعاب الوضع الدستورى بسيادة أسكتلندا كبلد مستقل ببرلمانه وحكومته ونظامه القضائى داخل المملكة المتحدة. وحتى قبل صدور قانون الحكم الذاتى قبل العقد، كان القضاء الأسكتلندى وقوانينه دوما مستقلين عن القضاء فى إنجلترا وإمارة ويلز. الصحافة هنا - وفى أمريكا بالطبع - أثارها صمت حكومة رئيس الوزراء جوردون براون عن اتهام ماكاسكيل لها بعدم الرد على مذكرته التى طلب فيها توضيحا لآليات تطبيق اتفاقية انتقال السجناء. ولا توجد فى البلاد صحيفة واحدة لا تشك فى أن الرحمة الأسكتلندية بطانية تغطى صفقة بدا نسج خيوطها فى زيارة رئيس الوزراء السابق تونى بلير لخيمة الكولونيل القذافى، وانتهت بلقاء الأخير ببراون فى قمة الثمانية قبل أسابيع فرائحة البترول الليبى (له ميزات تجعله فى سوق البترول كالقطن المصرى فى سوق المنسوجات) تفوح من حكاية شمول رحمة أسكتلندا للمسؤول الوحيد عن أكبر عمل إرهابى فى تاريخها.