للعين ياناس ما بيتشافوش وفيه كمان قطط سمان لو شافوا حتى ما يسمعوش أعادنى هذا الديوان الذى وردت فيه هذه الأبيات من الشعر العامى إلى تاريخ بعيد طوله ستون عاماً بالتمام والكمال، عندما انتهيت من مرحلة الدراسة الثانوية وحصلت على ما كان يسمى آنذاك ب«التوجيهية» قسم أدبى، وحصلت على مجموع 73٪، ومع ذلك كنت بين طليعة المتقدمين فى القطر كله، كانت الأولى فى ذلك العام -1948- فى التوجيهية اسمها فلورا نظمى عبدالمسيح، وكان مجموعها يدور حول 75٪، لم يكن فى أيامنا مجموع 99٪ و105٪، وهذا العبث الذى نشاهده. وكنت متردداً بين دخول كلية الآداب وكلية الحقوق، كان هواى مع الدراسات الأدبية، وانتهى الأمر بأن قلت لنفسى «ليكن الأدب هوايتى وليكن القانون حرفتى»، وتوكلت على الله ودخلت كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول، وكان لها فى ذلك الوقت «شنة ورنة»، ولم تكن كأيامنا هذه مأوىً لكل من لم يجد مكاناً آخر، أما فلورا فعلى ما أذكر دخلت كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية. وعاشت هواية الأدب معى فى كل مراحل حياتى، وإلى جوار المكتبة القانونية فى المكتب توجد المكتبة الأدبية والفلسفية فى المنزل وفى الساحل، وفى كل مكان أستقر فيه بعض الوقت. ومع عشقى للشعر العربى «الكلاسيكى» بمعنى، الذى يعتمد على الفصحى وعلى الوزن والقافية، فإن شعراء العامية الذين اجتذبونى إليهم بشدة: عمنا بيرم التونسى والصديق صلاح جاهين وفؤاد حداد وعم أحمد فؤاد نجم أطال الله عمره، وأخيراً صاحبة هذا الديوان الذى وردت فيه هذه الأبيات التى كتبتها فى صدر المقال: دكتورة نادية رضوان. ونادية رضوان تختلف عن المجموعة التى ذكرتها من عمالقة الشعر العامى، إذ هى أستاذة أكاديمية وزوجة أستاذ أكاديمى وتنتمى إلى أسرة ميسورة وكل ما يحيط بها لا يؤهلها -فى الظاهر- إلا للأدب الكلاسيكى، هى أستاذة فى علم الاجتماع وزوجها أستاذ فى الأدب الفارسى، ومع ذلك فإن ديوانها الذى أهدته إلىّ أخيراً فى جلسة من جلسات الساحل الشمالى، التى توشك أن تنتهى، يعتبر فى تقديرى من أعمق وأروع ما قرأت فى هذا الضرب من ضروب الشعر. ونادية رضوان، رغم ما قلته عنها ورغم أن انتماءها الطبقى، يجعلها بعيدة عن الكادحين المهمشين، فإن نبضها فى ديوانها كله منحاز انحيازاً كاملاً لهذه الطبقة من خلق الله، انحيازاً يجعلك تظن عندما تقرأ هذا الديوان أن صاحبته نشأت فى عشوائية من تلك العشوائيات التى تحيط بالقاهرة، ولم تنشأ فى مصر الجديدة بين الفئة التى تعتبر مترفة وموسرة. الديوان اسمه «ميت فل وعشرة» وقد أهدته صاحبته: للى نبض الكلمة منه للى «زيى» من الغلابة اللى باكتب ليه وعنه واللى عايش بين ديابة وفى كل بيت من أبيات هذا الديوان ظلت نادية أمينة على معنى هذا الإهداء حريصة عليه. لم تعبر فى قصيدة من قصائدها إلا عن هؤلاء الغلابة «اللى عايشة بين ديابة». وبعد هذا الإهداء الذى يعبر عن التزام صاحبته بقضايا «الغلابة»، تأتى مقدمة الديوان على ذات النمط: حاسكت بس إزاى ولسانى عمره ماكان ف الحق جبان حاسكت ليه ما الناس عرفانى ده أنا طول عمرى بألف لسان ■ ■ ■ هو لسانى إزاى راح يسكت طول ما أنا ليه عينين بتشوف طول ما قصادى وقدام عينى صوت مظلوم أو صوت ملهوف طول ما أنا ليا ودان وبتسمع دمعة قهر ونظرة خوف حرصت صاحبة الديوان على أن يكون الإهداء والمقدمة يعبران تماماً عن مضمون الديوان وتوجهاته، والحقيقة أن «نادية رضوان» فى كل بيت من أبيات هذا الديوان، حرصت الحرص كله على أن تكون صوت المطحونين المقهورين وعبرت عن أعقد وأعمق المشاكل السياسية التى يعانيها وطننا البائس فى هذا الديوان الرائع بلغة بسيطة واضحة وسهلة وفى متناول أوسع فئة من القراء. خذ قصيدتها عن السلطة وعشق الناس لها: مش طمعانة ياناس فى وزارة علشان بيزنس واللا تجارة ولا طمعانة ف حى الوزرا ولا ع النيل حابنيلى عمارة بس ياناس راح أموت ع السلطة نفسى ياناس أمسك لى وزارة ■ ■ ■ نفسى ف خبطة عمر كبيرة لما اتنطق وابقى وزيرة نفسى ف حارس بس ياناس حارس واحد مش حراس يحجز حتة ف شارع بيتنا للعربية عشان باحتاس هكذا تريد السلطة حتى تستطيع أن «تركن» سيارتها وسط القاهرة، التى تحولت إلى جراج كبير تحكمه الفوضى من كل جانب. وفى السياق نفسه، سياق التعبير عن الوصول والانتهازيين والمتملقين وحواريى السلطان، تقول: إياك تنطق لو خد حقك واد مرووش وكسر له إشارة واوعى تفتح لو فات جنبك واحد عامل دوشة وغارة حاول تسأل قبل ما تنطق شوف الأول يطلع مين ليكون واحد م الكبارة جايز وطنى واللا أمين جايز واحد شايف نفسه جايز خالته من الواصلين يعنى حتخرس.. تخرس خالص مهما يقولك.. رد آمين وفى محاولة أكثر عمقاً وإن كانت واضحة، تقول: أصل اللى باين م التاريخ أو حتى باين م الدروس إن إحنا شلة مقهورين إن إحنا بس يادوب هاموش فقير غفير أو كان غنى من غير نفوذ دول مايساووش واقرأ وصفها لشوارع القاهرة: كله مزنق كله محشر اللى يكلكس واللى يزمر واللى يخانق دبان وشه واللى مالهوش مزاج ومعكر زحمة يا عالم لو ماشيين حاجة تعصب لو سايقين لما الشارة الحمرا تزرجن واللا تعاند بالساعتين لما بنجرى ف وسط الشارع مش عارفين حنعدى منين وقبل الاقتباس الأخير من هذا الديوان الذى جذبنى إليه وأخذنى من المتنبى ومن الجواهرى، أعود إلى البيت الذى أوردته فى صدر هذا المقال: فيه ناس بساريا وناس هاموش للعين ياناس مابيتشافوش ماليين جيوبهم والكروش إشى بالنفوذ إشى بالفلوس واكلينها والعة من الجميع أصل الجميع دول مايساووش همه الجميع دول يبقوا مين؟ حبة بساريا أو هاموش؟ ولعل أفضل اقتباس من هذا الديوان نختم به هذا المقال، لأن فيه فصل الخطاب وخلاصة الحاضر والمستقبل وحكمة التاريخ، اسمعها تقول: مصر ياريس فل وعشرة مصر ياريس حالها مظبط ومافيش واحد ضايع حقه أو مقهور عمال يتنطط ومافيش عيل نام ف الشارع أو من كتر الجوع بيعيط حتى مافيش غلبان من أصله واللا حزام ع الوسط مقرط جزاك الله خيراً، وجعل هذا كله فى ميزان حسناتك فى هذه الأيام الطيبة من شهر رمضان الكريم يا بنت الأكرمين.