حين يصل الأمر إلى خداع المريض المصرى البسيط، الذى يمثل الأغلبية الساحقة من الشعب المصرى، فإننا -الأطباء- يجب أن تكون لنا وقفة إرضاءً لضميرنا أمام خالقنا سبحانه وتعالى وأمام مرضانا. فمن المعلوم بالضرورة أن توفير العلاج والرعاية الصحية لكل مواطن هو إحدى المهام الرئيسية للدولة الحديثة، وهو حق يكفله الدستور، وتكفله كل المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.. وما حدث فى السنوات الأخيرة فى مصر هو أن هذه الرعاية الصحية قد تدهورت إلى حد مخيف، وأصبح المرض عبئاً على هذا المواطن الذى لم يجد ما يحتاجه فى الوحدات الصحية، والمراكز الطبية، والمستشفيات المركزية والعامة، والمستشفيات الجامعية، ولم يبق أمامه إلا القطاع الطبى الخاص غير الخاضع لأى رقابة حقيقية وجادة فى كثير من الحالات.. ومن هنا، وبدلاً من وضع حلول جذرية لهذه المشكلة، وتطبيقاً لسياسة سكن تسلم، تفتق ذهن بعضهم عن هذه الفكرة الجهنمية.. وذلك بأن يذهب المريض إلى وزارة الصحة للحصول على ما يسمى الموافقة على العلاج على نفقة الدولة.. وتلك هى أولى صور الخداع.. فالعلاج على نفقة الدولة هو حق لكل مواطن أمس واليوم وغداً.. وليس مرتبطاً بأى شكل بهذه الورقة الخادعة! ونأتى إلى الخدعة الثانية، وهى أن المبلغ المخصص لهذا المريض لا يكفى فى أغلب الحالات لتوفير ما تتطلبه حالة المريض من أبحاث تشخيصية وعلاج وخلافه، ثم تظهر الخدعة الثالثة، وهى أن هذه المبالغ تصبح ديوناً على ميزانية الدولة -ميزانية العلاج- وتزيد من تراكم الديون الداخلية الضخمة التى تعانى منها ميزانية مصر.. ويتم سداد حقوق المستشفيات بالتقسيط المريح، وطبقاً لما هو متوافر ومتاح. مما سبق، يتضح جلياً أن الدولة ارتكبت أكثر من خطأ جسيم، فمن ناحية تركت منشآتها الصحية تعانى من سوء الإدارة وقلة الإمكانات، ومن ناحية أخرى، فتحت باباً خلفياً للعلاج يستنزف مئات الملايين من نفس الميزانية المرهقة لتحقيق نفس الهدف الذى من أجله بنيت هذه المنشآت والمراكز الصحية!! إذن.. نحن أمام عملية إهدار للمال العام وصرف مزدوج للأموال لتحقيق نفس الهدف. وإذا حاولنا بعد ذلك أن نبحث عن حل فليس أمام الدولة إلا أحد خيارين، إما أن تعود إلى رشدها وتركز جهدها فى تطوير ما لديها من منشآت صحية ووحدات ريفية ومستشفيات.. بتوفير الإدارة المتخصصة القادرة على أن تتعامل بأقصى قدر من المواءمة بين ما هو متاح وما هو مطلوب، وإما أن تغلق هذه المنشآت وتحول ميزانية البذخ إلى هذا الكيان الهلامى المسمى العلاج على نفقة الدولة، وعلى كل مريض أن يبحث عن صك العلاج وقت الحاجة، وهو وضع شاذ لا مثيل له فى العالم كله من حولنا. إننى أطالب بوقف هذه الخدعة، وهذا الاستنزاف غير المبرر لأموالنا، والبدء فى إعداد سياسة واضحة المعالم ترتكز على ما يلى: أولاً: التأمين الصحى الشامل لكل فئات الشعب يجب أن تكون له الأولوية القصوى وتسخر له كل الإمكانات. ثانياً: لابد من إنشاء مراكز متخصصة للأمراض المزمنة مثل الكبد والسكر والضغط والكلى والسرطان، وأن يتم توزيعها جغرافياً على مستوى الجمهورية، وتزويدها بكل الإمكانات المادية والتى تشمل التبرعات والهبات، وزكاة المسلمين، ومساهمات البنوك، ورجال الأعمال، وشركات الأدوية العملاقة وغيرها. ثالثاً: الاهتمام بتخصص طب الأسرة بحيث يغطى كل محافظات مصر لكى يكون الملاذ الأول للمريض المصرى. رابعاً: زيادة الاهتمام بالطب الوقائى، وبالأمراض المتوطنة، وطب الصناعات، لكى نتمكن من وقف زحف الكثير من المشاكل المرضية التى تهددنا من كل جانب. أعلم تماماً أن الأمر ليس سهلاً، ولكنى أوقن أنه ليس مستحيلاً.. فقط.. إذا توافرت الإدارة السياسية الحقيقية، والإدارة الواعية المخلصة.. والأمينة.. فهلا عدنا إلى رشدنا.. من أجل صحة أبنائنا ومستقبل بلادنا؟!