أردنا أم لم نرد، قَبلنا أم لم نقبل، نحن شعب نحب الماضى ونهوى العودة للوراء، ونعشق كل ما يصل إلينا من مخلفات زمن ولى، ونتلذذ باسترجاع التفاصيل والحكايات والروايات، ومن كان ومن قال ومن فعل ومن لم يفعل، غالباً ليس على سبيل العبرة ولا على سبيل التذكر ولا التعلُم ولا الاستفادة ولكن على سبيل ومن أجل عيون الماضى فقط وهذا يكفى. كما لو كان استرجاع الماضى بتفاصيله الصغيرة والكبيرة طقساً شعبياً نتوارثه ونحنّ إليه ونستمتع بممارسته لكن ذلك كثيراً ما ينقلب إلى غمّ عندما نصمم أن لا شىء فى الحاضر يساوى ما كان، ولا فرحة مثل التى كانت، ولا حياة مثل التى ولّت ولم تعد ولن تعود بالطبع. أقول ذلك الآن وقد سيطرت على الأجواء فى الأيام الكثيرة الماضية ذكرى ثورة يوليو عام 1952 وهى الذكرى السابعة والخمسون، ليست هى اليوبيل الفضى، ولا الذهبى ولا الماسى لها، لكنها إحدى السنوات العادية التى تمر بسرعة وتقترب من الستين فيما يشبه طرفة عين فى عرف جيل أو عدة أجيال سبقتها وعاصرتها ولحقت بها بسنوات قليلة، أجيال تشربت وقائع ثورة يوليو بتفاصيلها الكبيرة والصغيرة والتهمت كتب التاريخ والتربية الوطنية التى رفعت هذه الثورة إلى عنان السماء حتى كادت تلغى التاريخ المصرى منذ عهد الفراعنة حتى منتصف القرن العشرين عندما جاءت الثورة. حدث ذلك حتى تتابعت أجيال جديدة تكاد لا تعرف عن تاريخ مصر وليس تاريخ الثورة فقط إلا النزر اليسير، ليس لنقص فى المعلومات ولكن لنقص فى كتب التاريخ المدرسية من حيث المادة والصور والتحليل والموضوعية، ونقص فى تأهيل مدرسى التاريخ، ونقص أيضاً فى المناخ العام الذى لم يرحب أو يهتم بالمستوى التعليمى العام للطالب فما بالك بمستواه الثقافى والفنى والأدبى ومعرفته بالتاريخ القديم والحديث. جاءت ذكرى ثورة يوليو هذه السنة بهجوم كاسح فى كل وسائل الإعلام لتاريخ الثورة ويوم الثورة وليلة التمهيد للثورة، وزعيم الثورة بالطبع ورفاقه وحتى زوجات أعضاء قيادة الثورة، ولكن المتتبع لمثل هذا الاحتفال سيجد أن هذه السنة بالتحديد تشهد زخماً وتكثيفاً واحتفاء فى سنة عادية من سنوات الذكرى، وربما لهذا الوضع تفسير يتعلق بالرغبة العامة الصارخة فى استرجاع الماضى هرباً من واقع صعب وظروف سيئة وحياة من فرط اختناقها تضغط على رقاب الناس وعقولهم. ومن المعلوم أنه من التاريخ يتعلم الإنسان ومن تجارب الأجيال يتعلم الجيل الجديد، وعندما سُئل يوماً رجل حكيم عن أساس الثقافة وركنها الأساسى قال: التاريخ، ابدأ تكوين مكتبتك بكتب التاريخ ثم استكملها بالأدب والعلم والفن تكن مثقفاً، إلى هنا لا غبار ولا اعتراض. ولكن الاستغراق فى التاريخ كما لو كان الحاضر واسترجاعه بإلحاح واستفاضة وتناوله بإحساس عميق بالفرحة أو بإحساس عميق بالألم كما لو كان اليوم هو ما أحاول طرحه. تأتى ذكرى النكبة أو النكسة فنجتر سنوياً آلامها وأحزانها كما لو كانت بالأمس وليست من اثنين وأربعين عاماً وكلما أمعنا فى الحزن كنا صادقين تجاهها حتى يستوعب الحزن العبرة، ويستوعب الألم دروس التاريخ. ثم ننسى أو نتناسى أن تاريخ الأمم نصر وهزيمة، كرّ وفر، نستغرق فى ذكرى الهزيمة حتى نكاد لا نشعر أن نصراً كبيراً حدث بعدها، جاء بعظمة وقوة وبطولة، نصر عظيم تبع هزيمة ثقيلة فليكن الإحساس بكلا الأمرين فى وقت واحد الهزيمة والانتصار والدروس المستفادة منهما لوقائع التاريخ. وهكذا نحن فى معظم أمورنا، نحيا فى الماضى كما لو كان الحاضر، لا نريد أن نعترف أن مسافة تفصلنا عنه وأننا لسنا أولاد الأمس، لسنا - أو معظمنا - المشاركين فى انتصارات أو كبوات ثورة يوليو ولا يجوز لنا أن نحكم عليها بمنطق اليوم، نسترجعها نعم ولكن لا يجوز أن نعيش ونتنفس ونتقمص شخصيتها وأحداثها. [email protected]