لم تحظ ثورة فى التاريخ بكم هائل من الجهد والمجادلة كما حظيت ثورة 23 يوليو 1952 ربما لتعاظم أعداد مؤيديها ومعارضيها على حد سواء فى مراوحة بين تهويل مطلق أو تهويل مخل.. فمن المعلوم أن الحكم على تجربة بعينها يجب أن يكون نابعا من تقييم موضوعى لإيجابياتها وسلبياتها ومن ثم الحكم لها أو عليها وثورة 23 يوليو مثلها فى ذلك مثل أى ثورة سبقتها لها إيجابياتها العظيمة وسلبياتها التى فى عظمة إيجابياتها، وليس هناك مجال فى مقال بهذا الحجم لسرد أوجه هذه الإيجابيات والسلبيات، ولكن الأمر الذى لا مراء فيه أن هذه الثورة تعتبر الثورة الأم التى خرج من رحمها جميع الثورات التى غطت أنحاء المعمورة فى مرحلة تعاظم الشعور القومى الذى ساد العالم عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 ربما لأنها أدركت مبكرا الارتباط الوثيق بين المفهوم الوطنى المحدود والانتماء القومى الأشمل، كما أنها استوعبت دروس التاريخ فتنبهت إلى أن الحركة الثورية الصحيحة لا تأخذ شكل العمل العشوائى منقطع الصلة بما سبقه وما يليه، بل هى تيار مستمر يتفاعل مع البيئة التى تحيط به فيأخذ منها ويضيف إليها، يتأثر بها ويؤثر فيها، لقد كان رأيى دائما- ومازال- وسيظل أن الغرب فى تعامله مع ثورة يوليو قد وقع فى سلسلة طويلة من الأخطاء الاستراتيجية القاتلة التى أدت فى النهاية إلى توجه مصر نحو الشرق، فالقوى الغربية مارست أقصى درجات اللامبالاة بما حدث فى الشرق الأوسط خلال الخمسة والخمسين عاما الماضية، بل إن العالم كله قد أظهر لامسؤولية كاملة إزاء المآسى المتوالية التى حفلت بها هذه المنطقة على مدى خمسة عقود من الزمان، فتدخلات الغرب فى الشرق الأوسط كانت دائما تدخلات هوجاء وفى غير موضعها، ووعودا تأتى عادة متأخرة وبعد فوات الأوان، وكلمات براقة لا يعقبها أى عمل، لقد كانت مصالح دول المنطقة يُضحَّى بها دائما فى سبيل اعتبارات استراتيجية بحتة أو اهتمامات مما أدى إلى تفاقم التوترات وتعميق المشكلات، إن الغرب قد تصدى بشدة لموجة القومية العربية الصاعدة منذ نشوئها ورأى فيها قمة الخطر على مصالحه وفضل عليها الموجة الدينية، ولم يتصور وقتها أن هذه الأخيرة ستتحول إلى هذا التطرف الرهيب الذى شكل خطرا أكبر بكثير من خطر القومية.. بعد امتناع الولاياتالمتحدة عن تزويد مصر بالسلاح عام 1953 بعد أن وعدتها به وطالبت مقابل ذلك بعقد اتفاق سلام مع إسرائيل مستغلة مسألة تعويض اللاجئين الفلسطينيين، كما سحبت عرض تمويل السد العالى فى عام 1955، الأمر الذى أثر بشدة على كرامة مصر الوطنية، وهكذا دفعت واشنطن مصر بسوء بصيرة إلى المعسكر الآخر.. ووجد عبدالناصر فى الشرق الأوسط ما لم يجده فى الغرب فقام بتأميم القناة الذى أدى بدوره إلى العدوان الثلاثى الذى فشل عام 1956 الأمر الذى رسخ من مشاعر العداء والكراهية غير الموضوعية لمصر والتى بلغت ذروتها فى مساعدة إسرائيل إبان كارثة يونيو عام 1967.. بيد أن الآمال انتعشت بعد حرب أكتوبر عام 1973 فى دعوة مؤتمر دولى للسلام ينعقد فى جنيف ولكن محاولات التسوية اصطدمت برفض الولاياتالمتحدة الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطينى.. وتعددت المواقف الغربية المذبذبة والفاشلة فى حل مشكلات الشرق الأوسط.. ويبدو أن الغرب كان فى مسيس الحاجة لتفكك الاتحاد السوفيتى ذاته واختفائه من الخريطة السياسية للعالم حتى يتحرك لحل مشكلات هذا الشرق فى إطار نظام عالمى جديد لم تتبلور ملامحه بعد!! وعلى ذلك فنحن فى انتظار أن يمسك التاريخ بقلمه كى يقيّم تجربة ثورة يوليو التقييم الصحيح كواحدة من أغنى التجارب الإنسانية فى التاريخ المعاصر. لواء دكتور/ إبراهيم شكيب مصر الجديدة- القاهرة