نادرًا ما يحصل أول عمل لمخرج على جائزتى «أوسكار» أحسن فيلم وأحسن إخراج، لكن الإنجليزى «سام مندز» فعلها بفيلمه «جمال أمريكى» عام 1999، بالإضافة إلى ثلاث جوائز أخرى، ووضع نفسه بين كبار المخرجين فى أمريكا، وربما فى العالم رغم أن عمره وقتها كان 34 عامًا. «مندز» استثناء حقيقى لقاعدة عامة فى السينما، وهى أن أول فيلم لمخرج قادم من المسرح تغلب عليه الأفكار المسرحية فى إدارة الممثل وتصميم المشاهد والتصوير، لكنه كسر القاعدة، بل قدم مستوى إخراجى جعل ذكر اسمه مع عباقرة الإخراج منطقيًا. تخرج «مندز» فى جامعة «كمبريدج» فى إنجلترا عام 1987، ووصل عدد الجوائز التى فاز بها إلى 26 جائزة. كان والده «جيمس» محاضرًا فى الجامعة، وكانت أمه «فاليرى» مؤلفة قصص أطفال، وقد انفصلا فى عام 1970، لذلك يهتم «مندز» بطرق تربية الأطفال والعلاقة بين أفراد الأسرة، ويرى أن أكبر كارثة اجتماعية الآن هى العلاقة بين الأباء والأمهات، وقد اعترف بأن العلاقة بين الأبوين وأطفالهما تنعكس على اختيار وطريقة تقديم أفلامه، فقد تناولها فى 4 أو 5 أفلام أخرجها هى: «جمال أمريكى» 1999، و»طريق إلى الهلاك» 2002، و»طريق ثورى» 2008، و»نذهب بعيدًا» 2009. مجلة «A V CLUB» الأمريكية أجرت حوارًا مع «مندز» بمناسبة عرض فيلمه الكوميدى الأخير «نذهب بعيدًا»، تحدث فيه عن طريقته فى الإخراج والتعامل مع السيناريو والاقتباس، وكيفية إدارته للممثلين وتدريبهم، ورغبته فى التحرر من القيود التى فرضها على نفسه فى أفلامه الأولى: ■ ما مواصفات السيناريو الذى توافق على إخراجه؟ - التعامل مع السيناريو يتوقف على من هو السيناريست، فأنا متأكد أن هناك عددًا من السيناريستات يريدون قتلى، لأننى رفضت سيناريوهاتهم بسهولة، وذلك لأنها لا ترقى لأن تتحول إلى فيلم سينمائى. وأنا أعمل على السيناريو طوال الوقت، أضيف وأحذف منه بلا توقف حتى أثناء التصوير، لكننى عندما أتعامل مع كاتب سيناريو أعرف مستواه وقيمته، وأكون حريصًا جًدا على كل كلمة مكتوبة، وأتفرغ للإعداد إلى التصوير، ولأن السيناريست الكبير واثق فى نفسه، فهو لا يحضر التصوير، ولا يتعامل مع إنتاجه على أنه الأفضل فى العالم بل يستخدم جملة «هذا أفضل» بسهولة عندما يرى مشهدًا معدلًا فى السيناريو، لذلك إذا أضفت أو غيرت مشهدًا أثناء التصوير، وهذا وارد، أعرضه عليه وإذا لم يعجبه أستبعده، فالتعامل مع سيناريست كبير مثل «آلان بول» مؤلف «جمال أمريكى» متعة كبيرة، لأنك تحصل على العالمية. ■ وهل له شكل محدد فى طريقة الكتابة؟ - لا أحب السيناريوهات الجاهزة، وكمثال فى هوليوود معظم الأفلام التى تصنف كوميديا رومانسية تتلخص فى «فتى يقابل فتاة، يقع فى حبها، يخسرها، ثم يجرى تحت المطر لينقذها فى الدقيقة الأخيرة، نهاية سعيدة»، وفى فيلمى الأخير «نذهب بعيدًا» الذى ينتمى إلى هذا التصنيف، وافقت على السيناريو لأن البطلين «بيرت» و»فيرونا» لا يواجهان بعضهما، بل يواجهان العالم، فلا يوجد صدام حقيقى فى علاقتهما، والطريقة السهلة لكتابة هذا النوع هى عمل أزمة بينهما فى نهاية الثلث الثانى من الفيلم وحلها فى مشهد النهاية، وهذا ليس موجودًا فى السيناريو، فهو فيلم شارع أحببت خلط الأصوات فى قصته الطازجة، وفى الوقت نفسه جعلنى أضحك. ■ كيف تختار الممثلين؟ - غالبا أختار الممثل أثناء قراءتى للسيناريو، ففى «جمال أمريكى»، كانت الممثلة «أنيت بيننج» هى التى تقرأ الدور وليس أنا، أى أنها قفزت فى رأسى بمجرد القراءة، وتكرر الأمر فى «نذهب بعيدًا» مع «جون كرازنسكى»، وأعتقد أن وصف الشخصية فى السيناريو هو أول عامل لاختيار الممثل، وأنا أفضل الممثل الذى تتطابق أوصاف الشخصية مع شخصيته الحقيقية فى الحياة، أما قدراته التمثيلية فهى غير خاضعة للنقاش، لأننى لن أختار ممثلًا رديئًا أبدًا، وبعد الاختيار أسأل نفسى: «هل يوجد ممثل آخر يؤدى الدور بشكل أفضل؟»، وإذا لم أجد إجابة يكون اختيارى نهائيًا. ولا مانع من أن يرشح السيناريست ممثلًا للدور، وهذا حدث فى فيلم «نذهب بعيدًا»، فقد رشح السيناريستان الممثلة «مايا» لدور «فيرونا»، وكان رأيى أنها كوميديانة اسكتشات رائعة، لكنها بعيدة عنى، ومع ذلك قلت: «لنرى»، وعندما قرأت «مايا» الدور أمامى قلت: «هذا الدور لها»، فما أعرفه ليس الصح الوحيد، وهناك دائمًا صح آخر يعرفه الآخرون. ■ بعد اختيارهم، ما طريقتك فى إدارتهم؟ - كل الممثلين أدربهم أولًا على الأدوار حتى ينسجموا معًا. والتدريب هنا ليس على التمثيل، بل نجلس جميعًا نتحدث فقط عن الفيلم والشخصيات وكل التفاصيل مهما كانت صغيرة حتى يعرفوا من هم فى الفيلم، وأحرص على الاستماع إلى رؤية كل ممثل للشخصية التى سيمثلها: كيف تفكر؟، ماذا ترتدى؟، ما شكل منزلها؟، وغيرها من التفاصيل التى تؤثر فى قرارات مصممى الإنتاج والملابس، فأنا أريد أن أعرف منهم ماذا سيحدث فى لحظتين مهمتين هما: قبل أن يبدأ المشهد، وبعد أن ينتهى، ويجب أن يخرجوا كل أفكارهم تجاه السيناريو والأدوار، كما أملأهم بأكبر قدر من الأفكار دون أن ينفذوها، وبتعبير آخر أملأ خزان الغاز إلى آخره دون إشعال النار، وفى نهاية فترة التدريب أعطى لكل ممثل شرائط موسيقى أتوقع أن تسمعها وتحبها شخصيته فى الفيلم، وأحيانًا أعطيه صورًا فوتوغرافية أو لوحات مرسومة يمكن أن تحبها الشخصية، وأتركهم لمدة 3 أسابيع مع الأفكار والموسيقى واللوحات، بعدها أبدأ التصوير، وخلاله أطلب من الممثل تذكر كل ما قلناه فى هذه الجلسات، وأحيانًا أشغل له الموسيقى التى تحبها الشخصية، وبذلك فهو يتذكر أداء الشخصية بدلًا من اختراع أداء، فأنا أفضل التذكر على الاختراع. وعندما يصل الممثل إلى معرفة الشخصية أكثر من السيناريست نفسه، يمنحنى لحظة جميلة ومرعبة، وكمثال: فى فيلم «نذهب بعيدًا»، عندما وصل الممثلون إلى هذه اللحظة، اعترضوا على مشهد فى السيناريو، وقالوا إنه يقول أشياء سبق أن عرفها المشاهد فى الأحداث السابقة، فكتبنا سويًا مشهدًا آخر وصورناه وفعلًا كان أفضل. ■ كيف تضع خطة الإخراج، وما تفاصيلها؟ - تختلف من فيلم لآخر، وأى مخرج لديه اختياران لتنفيذ خطة التصوير: الأول أن يكون حريصًا على تنفيذ جدول أيام التصوير بدقة كما هو مكتوب، وهنا عملية الإنتاج هى التى تقوده ويكتشف أنه يضع جدولًا ولا يصنع سينما، ولا مجال للتجويد والتعديل والإضافات، وهذه طريقة سهلة. والثانى: أن يعيد تصوير مشاهد لا ترضيه مهما استغرقت من وقت، والإضافة والتعديل باستمرار أيًا كان مصدرهما الممثلون أو موقع التصوير أو أفكاره، وهنا يكون المخرج متحررًا ويقود العمل مع الممثلين ويستجيب لكل فكرة أفضل. فى فيلم «طريق ثورى»، وضعت خطة إخراج كأننى «أدخل إبرة ببطء فى جسد إنسان»، وكنت أتعمد ألا أترك فرصة للمشاهد ليتنفس، فقد حاولت أن أحبسه والممثلين فى جو محدد خانق وجامد إلى أبعد حد، وأخرجته بكلاسيكية فى الإحساس. أما فى «نذهب بعيدًا» فكنت أكثر تحررًا، فأنا أحب التغير التدريجى للحالة، وتركت المشاهد يذهب مع الرحلة الكوميدية الواضحة، لكنه سيفاجأ بتغيرها إلى حالة حزن. وقد استخدمت الموسيقى فى ذلك، فهى تمهد لهذه الحالة قبل أن تراها فى المشاهد، كما صممت الكادرات، وجعلت الديكور يعكس الحالة نفسها. ■ هل تفضل الاقتباس، أم الكتابة المباشرة للسينما؟ - تحويل الأدب إلى سينما عمل مهم، كأنه قطعة فنية، وفى رأيى أن المتعة توجد فى تحويل عمل أدبى مفضل عند الناس، وهناك فرق بين اقتباس عمل معاصر واقتباس عمل كلاسيكى، ففى الأول يجب أن تكتب نسختك أنت ولا تلتزم بالحوار المكتوب، أما فى الثانى فأنت ملزم باستخدام الكلمات كما هى مكتوبة، فلا يصح أن تغير حوارًا كتبه «تشيكوف» مثلًا. وكمثال، فقد درست كتاب «طريق ثورى» تأليف «ريتشارد ييتس» بطريقة كمن يستعمل ميكروسكوًبا، وكتبت منه نسختى التى ستظهر فى الفيلم، وكنت أسأل نفسى دائما: «هل يجب أن يكون هذا شكل الفيلم، فهذا ليس مكتوبًا فى القصة؟»، لكننى مقتنع أن الكتاب هو عالم الكاتب، والسيناريو عالم السيناريست، والفيلم عالم المخرج.