أثار مقتل السيدة المصرية فى ألمانيا على يد متطرف من أصل روسى ردود أفعال غاضبة واسعة النطاق فى مصر، ولأسباب مفهومة بالطبع، فالحدث المؤسف يجسد كل ما هو قبيح وحزين فى تاريخ أوروبا وألمانيا بالذات.. مع ذلك، من ناحية أخرى، هناك أيضا عدد كبير من الألمان الذين قتلوا على يد المتطرفين، ولأسباب لا تخلو من العنصرية، فى مصر. ومع عدم إنكار وجود تيار عنصرى منظم لا يمكن الاستهانة بخطورته فى ألمانيا فإن مقتل تلك السيدة يبدو أنه كان عملا فرديا، بينما جاء مقتل الألمان عندنا فى سياق عمليات منظمة. لذلك، فربما فى هذا العمل الإجرامى، الذى فيه شىء من الصورة المعكوسة لما حدث لكثير من الأجانب عندنا، فرصة لتأمل أوضاعنا وصورتنا فى المرآة. ذهبت السيدة المصرية سيئة الحظ لألمانيا بمصاحبة زوجها الذى كان يحضر رسالة الدكتوراه فى أحد فروع مؤسسات ال»ماكس بلانك» العلمية المرموقة. أى أنه ذهب لتلقى جزء من التراث العلمى المعاصر فاصطدم ببقايا تاريخ أوروبا - وألمانيا بالذات - العنصرى اللعين، الذى ذاق نزعاته العدوانية اليهود من قبل وتكتوى بنار بقاياه الجاليات المسلمة الآن، لذلك لم يكن من الغريب أن تتضامن قيادات بقايا الجالية اليهودية فى ألمانيا مع السيدة المقتولة وتشارك الجالية المسلمة فى مأساتها.. فما تدركه بقايا الجالية اليهودية هو خطورة التاريخ العنصرى ذلك والأسباب والأسس الفكرية التى كانت العجلة الدافعة وراء التطورات التى أدت إلى انزلاق ألمانيا، وهى التى كانت أكثر الدول تقدما علميا وثقافيا، نحو الجحيم النازى، الذى جرّت من خلاله العالم أجمع تقريبا لحرب ضارية، راح ضحيتها عشرات الملايين من البشر وتم فى سياقها تصفية معظم يهود أوروبا جسديا فى عمليات منظمة. أعتقد أننا لا ندرك أهمية استيعاب هذا التاريخ، أو على الأقل نفتقد الحس بأهمية الدروس التى يمكن أن تستفاد منه. فعلى عكس الجزء الأكبر من الألمان الذين يأتون لبلادنا لتلقى نبذة عن تاريخنا، حتى إذا كانت فى معظم الأحيان سطحية ومنقوصة ومتقطعة، لا تهتم النخب المصرية كثيرا بمحاولة اكتساب حتى القليل عن تاريخ تطور أوروبا عندما تذهب هناك، ولا تحاول نقله، بل ما تتناقله يقتصر على قصص عن التقدم التكنولوجى والبيزنس وال»شوبنج « إلخ... أما الثقافة والمتاحف - التى لا تحتوى فقط على عظمة الحضارة الأوروبية وإنجازاتها المبهرة بل أيضا على الشروخ العميقة ومواطن المآسى والفشل الكامنة فى تاريخها - فتظل فى الغالب خارج دائرة الاهتمام.. بل ليس لدينا حتى أقسام تاريخ أوروبى نشطة بجامعاتنا يمكن أن تشارك فى شرح تاريخ القارة لنا. ما نخسره فى هذا السياق، ليس كامنا فقط فى فقدان فرصة التعلم من إنجازات الآخر الثقافية، إنما أيضا من أخطائه الفادحة، وبالأسس الفكرية التى نتجت عنها، والتى ترتبط جذريا بتحولات وتحديات ومآزق تقترن بمراحل التحديث التى واجهها الغرب، والتى ليس لها مثيل دقيق فى تاريخنا العربى، لأننا ما زلنا فى بدايات مراحل التطور العلمى والتقنى والاجتماعى الذى تقترن به تلك التحولات. من الجليل جدا بالطبع أن نبعث بالبعثات الدراسية فى سبيل تعلم العلم الحديث ونقله لبلادنا، لكن حتى إذا نجحنا فعلا هكذا فى بناء قعدة علمية رصينة فإن ذلك لا يكفى لبناء مجتمع منفتح ومزدهر وناجح، يصون حرية وكرامة الفرد وحقه فى حياة كريمة. والتاريخ الأوروبى يؤكد ذلك. فألمانيا منذ قرن مضى كانت أكثر الدول تقدما فى المجالات العلمية والهندسية، ففيها اخترعت النسبية وميكانيكا الكم واكتشفت أشعة إكس مثلا، والاتحاد السوفيتى أيضا كان بلدا متقدما علميا، لكن لم يحول ذلك دون انزلاق تلك البلاد نحو الهاوية. وليس بالمصادفة أن الجزء الشرقى من ألمانيا (حيث تقع مدينة دريزن التى قتلت فيها السيدة المصرية) هو حاليا معقل الأفكار والجماعات العنصرية والأكثر تقبلا لها، لأنه عاش فترة أطول تحت الأنظمة الشمولية، ولم يعالج أو يناقش وينقد تاريخ البلاد العنصرى المرعب بطريقة مفتوحة كما حدث فى الغرب، فعاد بوجهه القبيح من تحت أنقاض شعارات التآخى الاشتراكية. فالذى تؤكده تجارب الغرب خلال القرن الماضى هو أن التقدم العلمى البحت وحده لا يكفى. أما ما كان كامنا فى الأفكار المؤسسة للمجتمعات (مثل بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا) التى تمكنت، فى سياق تحولها نحو الحداثة، من صنع أنظمة ليبرالية تصلح لاستضافة الحياة الآدمية الكريمة، أنظمة تفادت الانزلاق نحو الانهيار الناتج عن الانغلاق والتعصب، هو جوهر النهج العلمى نفسه، القابل للتعددية وقبول الاختلاف وتنافس الفكرى الحر والنقد المنطقى والتفنيد العملى لكل الأفكار المطروحة بصرف النظر عن مصدرها أو جاذبيتها النفسانية للناس، التى قد تنتج عن التعلق بالحلول السهلة فى ظل الظروف الصعبة. وفى نفس الوقت، نبذت وهمشت التيارات التى تتعمد تفادى هذا النوع من النقد والتفنيد العقلانى، لأنها تستند فى شرعيتها للأساطير الرومانسية الخلاصية، سواء كانت تتذرع بالمغالطات ال»علمية» (أى الشيوعية) أو الدينية، أو استخدمت الحديث عن «روح الأمة» وثوابتها فى سبيل توظيف التراث تجاه أهداف سياسية شمولية، كما فعلت التيارات الفاشية. هذا ما يمكن أن نتعلمه من تجربة الغرب السياسية والاجتماعية المعاصرة، وأعتقد أنها دروس مهمة، بالذات فى هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا.