هل كانت قناة ديسكفرى الأمريكية مغرضة عندما قررت أن تعيد هذه الأيام بث برنامج عن علم الوراثة فى ظل تصاعد حمى الحديث عن التوريث فى بلادنا؟. ليس هذا اتهاما ولا تلقيحا، رغم أنه لا وراثة دون تلقيح جينات، ولا توريث دون تلقيح جتت. ما لفت انتباهى بشدة فى برنامج ديسكفرى هو شرحه الممتع لتطور هندسة الجينات بشكل جذاب بصريا وسرديا رغم تعقيد الموضوع الذى حاولت أن أقرأ فيه كثيرا وفشلت فى فهمه لغبائى وليس لقصور من كتبوا عنه، وعلى رأسهم ورأسى العلامة الدكتور أحمد مستجير رحمه الله، الذى حاول كثيرا تبسيط علم الهندسة الوراثية لإثارة اهتمام المصريين به، وبرغم ذلك نجح «أحمد» آخر فيما فشل فيه أحمد مستجير، أعنى الفنان أحمد الفيشاوى الذى عرف المصريون على يديه المفهوم العلمى لاختبار ال«دى إن إى». بالطبع لن تستغربوا لو قلت لكم إن ما دفعنى للاهتمام بموضوع الوراثة، مقروءا أو مرئيا، ليس رغبتى المفاجئة فى تحسين خصائصى الوراثية أو معرفة كيف أقوم بتطليع جينى لإجراء تعديلات فيه، فقد اهتممت بالموضوع فقط من منطلق سياسى بحت، خاصة وأنا أرى كيف تتم محاولة تشكيل خريطة مصر الجينية الآن، وكيف ينتشر فيها بكل وقاحة مهندسو التوريث الذين يلعبون فى حمضها السياسى النووى بدأب واجتهاد. برنامج ديسكفرى استعرض الجهود التاريخية لعشرات العلماء بدءا من مندل ومرورا بألفريد ستورتفانت الذى اكتشف أول خريطة جينية فى عام 1911، وصولا إلى العالم هيرمان مولر الذى قام باكتشاف أول طافر صناعى خارق عام 1916، حيث قام بتطوير كائنات ذات طفرة وراثية باستخدام تركيب الحمض النووى (فى حالة عدم الفهم يرجى مراعاة أن هذا ما لم أفهمه من البرنامج وعديها لى). ما استوقفنى وأظنه سيستوقفك هو تعبير «الطافر الخارق» الذى يشير إلى ذبابة الفاكهة «دروسوفيلا» التى كانت مجالا لمئات الأبحاث عبر عشرات السنين حاول فيها العديد من العلماء حل جميع الألغاز الوراثية باستخدام ذبابة الفاكهة دروسوفيلا (بالطبع دروسوفيلا اسم يليق بذبابة كما يليق كفرسول كإسم لمبيد حشرى). كان المنطق الذى تم اختيار دروسوفيلا بناء عليه هو كما يقول البرنامج «إذا أردت فهم الجينة عليك أن تضع يدك أولا على حيوان تستطيع فهم حمضه النووى». (لاحظ أن هذا حصل قبل أكثر من ستين عاما قضيناها نحن فى النقاش المتشنج الصاخب حول حديث غمس الذبابة فى الإناء هل هو إعجاز علمى أم لا، وأنا أبوس إيديكم، ماشى والله العظيم إعجاز علمى، لكن توقفوا عن النقاش فى ذلك وشوفوا لنا ذبابا ندرسه ولو حتى لعُشر عدد السنوات التى درس فيها علماء الغرب ذبابة الفاكهة، لعلنا نتعلم منه عُشر ما تعلموه وأفادوا به الخلق). أهم ما كشفه برنامج ديسكفرى من وجهة نظرى هو أنه نتيجة لتلك الأبحاث الوراثية المعقدة التى هدفت إلى تغيير الخريطة الجينية لذبابة الفاكهة، ظهرت ذكور ذباب فاكهة شاذة، أيوه ذبابات من قوم لوط أو سمها ذبابات مثلية إن أردت ألا يتهمك أحد بالتخلف، أما العلماء فقد أطلقوا على ذلك الذباب السافل اسم «فوالا» وهو اسم مشتق من كلمة فرنسية تعنى الانجذاب إلى الجنسين والعياذ بالله، بالطبع لم أفهم الفكرة فى البداية، خاصة أننى أخذت أتأمل الذباب الذى كان يطن حول طبق الفاكهة أمامى، وسرحت بأفكارى محاولا تحليل نمط العلاقات الناشئ بينها، لكننى تذكرت أن ذبابنا الوطنى بحمد الله له تقاليده وقيمه وأنه بالتأكيد مثلنا يحتقر تلك الأفعال الدنيئة، وأنه إذا لم يجد منفذا لقضاء شهوته فإنه يقضيها فينا نحن عندما يطلع عين اللى خلفونا ونحن نحاول عبثا هشه أو قتله أو اصطياده. خلاصة القول أن اللعب فى الجينات بالهندسة الوراثية كما أن له مميزات عظيمة فإنه من الممكن أن ينتج خرابا وانحرافا إذا تم التحكم فيه لأغراض غير علمية وغير بريئة، أعلم أننا مشغولون دائما للأسف بالبحث عن فاكهة غير مسممة أو مرشوشة أكثر من انشغالنا بالبحث فى جينات ذباب الفاكهة، لكن لا يمنع أن نستخلص من كلام قناة ديسكفرى عبرة نواجه بها ذباب التوريث الذى لا يكف عن الطنين فى حياتنا السياسية فنقول لرموز هذا الذباب سواء كانوا ذكورا أو إناثا أو فوالا، نصيحة لوجه الله لا تلعبوا فى جينات مصر إذا كنتم تحبونها، ولاتعيدوا رسم الخريطة الجينية السياسية فيها لأن فى ذلك لعباً بالنار قد ينتج عنه ما هو أخطر ألف مرة من شذوذ الذباب. ابعدوا عن جينات مصر لأنها ليست حِمل المزيد من البهدلة. هِشّ. * يستقبل الكاتب بلال فضل تعليقاتكم على مقالاته عبر بريده الإلكترونى الخاص. [email protected]