عنوانُ المقال، استعرتُه من قارئ جميل آخر. جاءتنى العبارةُ عنوانًا لإيميل أرسلَه تعليقًا على مقالى السابق «أجملُ قارئ فى العالم». والحقُّ أن عشراتِ الرسائل والتعليقات قد وصلتنى بعد هذا المقال. العديدُ منها يطلبُ كاتبوها البريدَ الإلكترونىّ للعمِّ «محمد كامل»، أجمل قارئ فى العالم. ولمّا أخبرتهم أنه «من الأحرار»، ممن رفضوا عالمَ الإلكترون الافتراضىّ، مُفضّلين عليه دنيا الواقع الأرضىّ؛ وممن يجدون متعتَهم فى القراءة من الورق، متنسّمين رائحتَه، مُخطّطين بالقلم على هوامشه، بدلاً من قراءةِ شاشةٍ ضوئية، بضغطةِ زرٍّ تختفى صفحتُها خلف غيمةٍ باردة من الإلكترونات الزرقاء المُشِعّة، طلبوا رقم تليفونه، أو أى وسيلة للتواصل معه. هكذا أصبحَ القارئُ عملةً نادرةً نتلَّمس طريقَنا إليه بكلِّ عُسْر، مثلما نفتِّشُ بيأس عن لؤلؤةٍ بيضاءَ نقيةٍ فى قاع محيطٍ زاخرٍ بالشِّعاب المرجانية القاسية والأسماك السامّة وكِسَر المحار والأصداف والرمال. وهنا يفرضُ نفسَه سؤالٌ مُلِحٌّ وسخيف: لمَن نكتبُ إذًا، إن لم يكن ثمة قارئٌ لما نكتب؟!على أيامنا، ونحن بعدُ على مقاعد المدرسة، كنّا ندّخرُ قروشَنا الصغيرةَ طوال الأسبوع، لكى نذهب إلى سور الأزبكية الشهير نشترى الكتبَ لنقرأها خفيةً من أهلنا الذين كانوا ينهوننا عن القراءة فى غير الكتاب المدرسىّ؛ لكى نحصدَ الدرجاتِ العُلا وندخلَ الكليّاتِ العُلا. قرأتُ «الإلياذةَ» و«الأوديسا»، و«الجمهورية» وغيرها من الكتب الضخمة، على مصباح رأسٍ صغير تحت السرير، بعدما أُطفى نورَ غرفتى، كى أهرب من تعنيف أُمّى بسبب انشغالى بالقراءة على حساب كتب وزارة التربية والتعليم العظيمة. والآن، كنتُ أظنُّ أن مجردَ وجود مكتبةٍ ضخمة فى بيتى، مع حثّى ابنى على القراءة، كافيان ليقرأ. لكنه لم يقرأ سوى عمل واحدٍ لتوفيق الحكيم. يذكِّرنى به كلما حثثته على القراءة، قائلاً: «مش قريت لك مصير صرصار؟» على اعتبار أنه يقرأ لفائدتى الخاصة، لا لفائدته هو! وحين مسَّه حزنى، فاجأنى فى اليوم التالى يحكى لى روايةَ «الخيميائى» للبرازيلىّ «باولو كويللو»! بل ويناقشُ معى الدلالةَ الفلسفية والرمزية حول رحلة سانتياجو وحُلمه! اندهشتُ جدًّا وطِرتُ فرحًا! ابنى صار قارئًا! فأخبرنى أنه اكتفى بقراءة مقدمة بهاء طاهر التى تصدّرت الروايةَ بعدما ترجمها للعربية ووهبها عنوان: «ساحرُ الصحراء». وكان الأستاذ طاهر قد طرحَ، فى مقدمته، مُلخّصًا للرواية ورؤيةً تحليلية لرمزها الفلسفىّ. اكتفى صغيرى بالمقدمة، لأن نظريته العبقرية تقول: «ليه تقرا أكتر، لمّا ممكن تقرا أقل؟!» هذا جيلٌ مُتآمَرٌ عليه. كيف ولماذا يقرأ شابٌّ يشاهدُ فى القنوات الفضائية كلَّ ربع ساعة مسابقةً قيمتها ألف دولار حول: «ما اسم الفيلم أو الأغنية أو الماتش؟» لابد، إذًا، سيُجنِّدُ كلَّ طاقاته الذهنية فى الفُرْجة على الأفلام والماتشات ثم حفظها وأرشفتها فى ذهنه. لكن فيمَ سيفيده الكتابُ والثقافةُ ووجعُ الدماغ؟! هكذا يفكرون! أما الذى ألهمنى عنوانَ المقال فهو شابٌّ من هذا الجيل. إسلام محمد صالح، ليسانس آداب قسم الحضارات الأوروبية القديمة. أعلنَ فى رسالته لى أنه لا يقرأ أبدًا، ولم أصدِّقه. لأن عنوانَ رسالته، (الذى استعرتُه عنوانًا لمقالى)، يشى بتواصلٍ جيدٍ مع اللغة ومع القرآن، وهو منبع البيان. قرأنى عبر مصادفةٍ عارضة من أغرب المصادفات وأكثرها طرافةً، إلا أننى فرحتُ باكتسابه كقارئ، ربما أكثرَ مما يفرحُ كاتبٌ بقارئ سعى إليه سعيًا واشترى كتبَه وتابعه فى الصحف. أما كيف عرفنى؛ فقد كان مع أسرته يتناولون العشاء، وقد افترشوا جريدةً تحت الطعام. ولأنه لا يهوى الطعامَ كثيرًا، تشاغل عنه بقراءة مقال، كان بالمصادفة أسفلَ صحنه. ولحسن حظى، كان المقالُ، مقالى! فطوبى للصحن حين يتوسَّدُ جريدةً! [email protected]