أجاب الرئيس الأمريكى باراك أوباما على سؤال حول مسألة نشر وترويج الديمقراطية وحقوق الإنسان فى المنطقة والشرق الأوسط، خلال المؤتمر الصحفى بالقاهرة، والذى نشرته «المصرى اليوم»، قائلاً «أنا أؤمن بالديمقراطية وحقوق الإنسان والخطاب الاجتماعى العالمى، لكن يجب أن نعلم أن هناك شعوباً مختلفة، وأشخاصها مختلفون، وأفكارها مختلفة، وعاداتها مختلفة، وتقاليدها مختلفة بشأن هذه المسألة، وبالتالى علىّ أن أؤكد من أعماق قلبى وروحى ضرورة احترام الآخر والتعايش مع بعضنا البعض، ولا يمكننى فرض معتقداتى على الآخر، ولا يمكننى أن أستغل أغلبيتى للعمل ضدك، ولا أستطيع أن أفرض معتقداتى الدينية وأقول لأحد عليك أن تتبع معتقداتى نفسها. وقضية حقوق الإنسان والديمقراطية مهمة جداً للإسلام، لأنه يمكنه أن يعالجها، فأنا أعلم أنه ليس كل المجتمعات الدينية متشابهة فى تنفيذها السياسى، فالشريعة مثلاً يمكنها أن تحمل تفسيراً متشدداً أو حديثاً تجاه قانون وضعى، وأنا لا أتخذ ولا أفرض قراراً يتعلق بهذا الأمر على أى دولة أو مجموعة من الناس، ولكننى لا أوافق على مبدأ يلزم الآخرين باعتقاد ما، فنحن فى الولاياتالمتحدة نرى أن فى ذلك مناهضة للحقوق، ويتنافر مع روح الديمقراطية ويجلب الصراع فى النهاية، مما يجعل خلق هذا الحوار مهماً داخل الإسلام». فى ظنى أن هذه الفقرة بالحوار الصحفى هى الأهم فى كل ما قال أوباما بالقاهرة، فهى تلقى بالكرة فى ملعبنا لتنتظر ردنا، فيها لغز علاقة المسلمين بالغرب وحداثته، وفيها حل اللغز. فقد ننساق وراء تدليكه غرائزنا ونحتسب خطابه بالقاهرة تشجيعاً لحكوماتنا ولشعوبنا معها على الاستمرار كما هى دون بحث أى أخطاء من جانبنا لنصلحها، مع عدم الاعتراف بأى خطأ، حاضراً أو ماضياً، بل ربما تقديس الخطأ والاستمرار فيه على عادتنا التاريخية المتواترة، وتظل الأوضاع على ما هى عليه، لكن ذات الفقرة على استعداد للتعامل مع نظام ديمقراطى حقوقى أيضاً، لكن دون أى تدخل أمريكى لفرض هذا النظام، بعكس ما قال بوش الابن من قبل، وهنا المعادلة الصعبة التى تترك الليبراليين العرب عرايا أمام ترسانة مدججة بشارع مسلوب الوعى وبماض تليد وحكومات قامعة ومأثور عنيد هو الأعز على قلوب الشعوب، التى تدعو من مساجدها أهم دعاء لها: «اللهم لا تجعل مصيبتنا فى ديننا»، وما عدا ذلك من مصائب فليس من المشاكل الملحة، وتصبح المشاكل التى تشغل العلمانيين ليست من نوع المشاكل التى تشغل رجل الشارع المسلم. قال أوباما إن الإسلام دين تسامح ومساواة، وإنه يدافع عن حقوق الإسلام الحقيقية وليس الصورة النمطية المسيئة للإسلام، وركز على مشتركات بين الأديان هى مبادئ العدل والتقدم والتسامح وكرامة كل بنى البشر، وأنه فى كل دين مبدأ: عامل الآخرين كما تحب أن يعاملك الآخرون، وأن الإيمان بالآخرين هو ما دفعه للمجىء للقاهرة لمخاطبة المسلمين. الفقرة السالفة لها أهميتها لتجميل خطابه هو أمام أهل الغرب بدورهم، الذين قرعوه على هذه الزيارة وذلك الخطاب فى وسط استبدادى، أما بقية الخطاب فهو تجميل لأمريكا فى نظر المسلمين بالتسلل عبر ما هو عزيز علينا ومخاطبتنا على قدر عقولنا. بدأ بالسلام عليكم (تصفيق حاد بالقاعة) وشرح أنه رغم مسيحيته فهو من أب مسلم وأنه تعرف على الإسلام فى المواطن الثلاثة التى عاش فيها، وقال إنه سيتبع فى كلامه نصح القرآن الكريم: «اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً» (تصفيق حاد بالقاعة)، وأنه أمر بإغلاق سجن جوانتانامو (تصفيق حاد/ عقبال عندنا قادر يا كريم)، وأكد أن حربه موجهة ضد القاعدة فقط، وهى عنده كما هى بالضبط فى خطابنا الدينى والرسمى المخاتل، هى مجموعة من شواذ المسلمين من قلة منحرفة فهم حسب قوله: «مجرد حفنة شاذة من المسلمين وتصرفاتهم» لا تتماشى مع حقوق البشر وتعاليم الإسلام بدليل آية «من قتل نفساً بغير نفس» (تصفيق حاد)، وأن أمريكا لن تكون فى حرب مع الإسلام (تصفيق حاد)، وأن المحاكم الأمريكية أعطت المرأة المسلمة حق الحجاب وعاقبت من ينكره عليها (تصفيق حاد) وحتى يبدو مثلنا يردد ببغائياتنا التاريخية التى هى محفوظاتنا الأثيرة، وشعاراتنا الغالية، قام يردد مقولاتنا الخوالد مثل أن الأزهر قد حمل مشعل التنوير والحضارة للعالم، وأن المسلمين هم من اخترع البوصلة وعلم الجبر والملاحة والطباعة (لا أدرى من أعطاه هذه المعلومة الخاطئة لأن الطباعة جاءتنا مع نابليون وكفرها مشايخ الأزهر كبدعة شيطانية)، إضافة إلى شعرنا فى الفخر والهجاء والشحاتة والتسول، وخطنا العربى اللهلوبة بين كل كتابات وخطوط الدنيا. لاشك أن رد الفعل بالتصفيق أو بالوجوم التام مع أقوال أخرى، هو معيار لقياس رد الفعل، فحديثه عن الهولوكوست والعنف الفلسطينى الذى سيؤدى لطريق مسدود، ووجوب اعتراف حماس بحق إسرائيل فى الوجود، كلها مما قوبل بالصمت والوجوم التام وهو ردنا الأول على بعض خطابه فيما لا نحب ولا نشتهى.أما قوله إن الوضع الفلسطينى لا يحتمل وأن أمريكا لن تدير ظهرها للفلسطينيين، فقد قوبل بالتصفيق الحاد بذات الشدة الاستحسانية لتصفيقهم للآيات القرآنية العشر التى تلاها. ■ ■ ■ إذن ردنا الأول بالقاعة هو أننا نحن كما نحن على قواعدنا ثابتون دون تغيير، وأننا لن نناقش ولن نحاول حتى مجرد إعادة النظر فى قضايا مهمة ومحسومة لدينا، لأننا الحق التام وغيرنا الباطل التام. أما الرد العملى فقد جاء سريعاً من الأزهر، رائد الحضارة وحامل مشعل الحريات والتنوير، بإعلانه ثانى يوم للخطاب الأوبامى الموقف من المصريين البهائيين، وبالتالى هو موقف من الخطاب الأوبامى. بالعودة لبيان شيخ الأزهرالأسبق جاد الحق وإعادة توزيعه للإعلان عن موقف الأزهر، ومضمونه «إن البهائية ليس لها صلة بالأديان السماوية، بل هى دين مخترع جديد ظهر أواخر القرن التاسع عشر الميلادى، وحظى برعاية ومباركة الاحتلال الإنجليزى، ويهدف إلى تفتيت وحدة المسلمين، وإنكار فرائض الإسلام»، وقبله بأيام جاءت مطالبة أعضاء مجلس الشعب (وطنى وإسلامى) بإصدار قانون يجرم الفكر البهائى ويحاكم المروجين له، مع وصفهم البهائيين بالخطر الداهم على الأمن القومى المصرى، لافتين إلى ميل البهائيين إلى الصهيونية لاعتقادهم بضرورة إلغاء فريضة الجهاد فى الإسلام، ومن جهته حذر الدكتور أحمد عمر هاشم، رئيس اللجنة الدينية بمجلس الشعب، من شيوع الرذيلة فى ضوء انتشار الفكر البهائى بين الشباب المصرى/ صحيفة اليوم السابع!! وهو كله ما جاء بعد مطالبة البهائيين بحقهم كمواطنين بتسجيل ديانتهم بالبطاقة الشخصية، وانتهى الموضوع إلى «شرطة» بدل الديانة، ثم هياج قرية الشورانية وحرقها منازل البهائيين وطردهم منها، مع ظهور صحفى مثقف (أو يفترض هكذا) فى التلفاز يطالب بقتلهم علناً. إذن هذا هو ردنا بمجلس الشعب بالحزب الوطنى بالإخوان .. والأزهر بعد ذلك ظهيراً، ردنا هو استمرار الجهاد وقتل الذين يدعون إلى وقفة وحرقهم إن أمكن كما حدث مع البهائيين، والجهاد يعنى استمرار المسلمين فى حالة حرب مع العالم كله حتى يسلم أو يدفع الجزية عن يد وهو صاغر!!!، فالدعوة للسلام كفر حتى لو كانت للسلام الوطنى داخل الوطن بين مواطنيه عناصر وأدياناً، وأننا لن نتعامل مع الآخرين كما نحب أن يعاملونا كما قال أوباما، فهذا هو الكفر عينه، لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وأن أوباما يهرف بما لا يعرف، فلا عندنا تسامح ولا كرامة لكل بنى البشر، إذا كانت كرامة مواطنين مصريين مهدورة بلا كرامة وبلا تسامح لأنهم يخالفون المسلمين العقيدة. فلدينا تصنيف فى توزيع الكرامة حسب الدين والمذهب والطبقة، لذلك فقول أوباما إنه يفهم صورة الإسلام الحقيقية هو افتئات على الإسلام الحقيقى، فكيف يكون ما قاله هو الإسلام الحقيقى مقابل ما قال مجلس شعبنا الموقر وأزهرنا وشارعنا الإسلامى الذى يحرق ويسلخ وهو مطمئن لسلامة دينه وصدق إيمانه. بهذا الشكل سيقف دعاة العلمنة والمدنية الدستورية والحقوق الليبرالية عرايا من أى غطاء. أمريكا ستتعامل مع أوضاعنا كما هى، أو إن تغيرت للأسوأ أو للأفضل، أوباما يعرفنا، لذلك أعلن ترك الحبل على الغارب دون تدخل لترك الفوضى الخلاقة تحرق، بذريعة عدم فرض الديمقراطية الحقوقية، لأن هذا الفرض ضد قيمها ومبادئها، وهو ما يعنى أيضاً أننا سنستغيث بلا مغيث، فى ظرف حرج ومنعطف تاريخى سنخرج معه خارج دائرة البشرية كلها، والغوث المعنى هنا هو الغوث المعنوى وضغوط المجتمع المدنى الدولى وكل قوى الضغط الداعم والمؤرق الذى لا يهدأ ولا يتواطأ، وهو ما يبدو أنه ابتعد بعد أن بدا لنا قريباً مع ضرب منهاتن. ابتعد مرة أخرى بحسابات المصالح الأمريكيةالجديدة بغض النظر عن مصير شعوبنا، وأنه على العلمانيين العرب أن يعيدوا تقييم المواقف، من أجل توحد وتضافر بعضهم على خريطة المنطقة بحيث لا يتم تجاهلهم بحسبانهم نخباً تمثل جزراً منعزلة عن بعضها، وكلهم والحمد لله أو معظمهم أسماء كبيرة تتسم بالطهارة ونظافة الذمة، ويمكنهم أن يكونوا ذوى أثر فاعل فى الساحة، بحيث لا تبقى فارغة إلا من خيارين أحلاهما مر: الاستبداد السياسى المستمر أو الاستبداد الدينى المرتقب، بخيار ثالث هو المواطنة أولاً والإصرار على رفع المواد الدينية من الدستور، وخانة الديانة من البطاقة الشخصية، والتعايش السلمى بين المواطنين وفق عقد اجتماعى تحدوه المصلحة العامة، وألا يخرج الدين من الكنيسة أو المسجد إلى المجال العام صوناً له من العبث البشرى، ولتفعيل دوره فى تربية ضمير المواطن وتعليمه كيف يدخل الجنة.. وليس أبعد من هذا، من أجل وطن أفضل للأجيال المقبلة، مع التواجد الليبرالى الواضح دون أى تراجعات، المستمر والفاعل على الساحة عبر كل السبل السلامية الممكنة، لإثبات هذا الحضور.وبعد، أتمنى أن يخيب هذا التحليل برمته، وأن يكون إحدى هناتى وسقطاتى، وأن تكون القوادم خيراً من السوالف، على ألا نكتفى بالقعود حتى يأتينا الفرج مع مخلص منتظر، وسواء كان هذا المنتظر هو أوباما أو المهدى أو المسيخ أو المسيح.