يملك الدكتور مسعود عبدالرحمن، أستاذ البحيرات بقسم علوم البحار كلية العلوم جامعة الإسكندرية، خبرة هائلة بالبحيرات.. ليس فقط لأن الرسالة التى حصل بها على درجة الدكتوراه من إحدى جامعات ألمانيا عام 1966 كانت عن البحيرات، ولكن لأنه منذ ذلك التاريخ ولا عمل له إلا البحيرات فى مصر. فى حواره معنا بدا عبدالرحمن أشبه ما يكون برجل يتلمس طريقه وسط حقل ملىء بالألغام.. يتحفظ تماماً فى مشيته وهو يمر من بينها، فهو حريص ألا يذكر أسماء مسؤولين حكوميين قال إنهم ساهموا فى التعدى على بحيرة مريوط بالصمت حيناً والتجاهل أحياناً، غير أن حرصه كان أكبر وهو يعرض مشاكل البحيرة وطرق حلها، فهدفه هو إيجاد حل لمشكلة البحيرة، وليس التشهير بأحد كما كان يردد دائماً.. وإلى نص الحوار: ■ صف لنا وضع بحيرة مريوط حالياً؟ - منذ أن حصلت على الدكتوراه فى علم البحيرات من ألمانيا منتصف ستينيات القرن الماضى، ومشاكل البحيرة لم تتغير، فالبحيرة تتعرض منذ الستينيات للعديد من المشاكل التى تسبب فيها التأثير الآدمى سواء الصناعى أو الزراعى، أو حتى عمليات التجفيف الإجرامى المستمر الذى يتم باستقطاع أجزاء من البحيرة وردمها، وهو ما تسبب فى تضاؤل مساحة البحيرة، وتقطيع أوصالها إلى عدة أحواض متناثرة يخترقها طريق القاهرة- الإسكندرية الصحراوى، وأصبحت البحيرة عبارة عن أحواض معزولة أهمها الحوض الرئيسى الذى كانت مساحته 6500 متر قبل أن تأتى عليه أعمال التجفيف، ويقام عليه مشروع كارفور التجارى الذى يشهد حالياً توسعات عملاقة على جسم البحيرة. ■ كيف تؤثر عمليات الردم على البحيرة؟ - بحيرة مريوط هى جسم مائى حبانا به الله، ونحن ندمره بأعمال الردم، وسوف تلعننا الأجيال القادمة إذا دمرنا مصادر المياه التى لها تأثير مباشر أو غير مباشر فى تلطيف جو الإسكندرية، ومعروف جداً أن مدينة الإسكندرية محافظة مستطيلة يحدها البحر المتوسط من الشمال، وبحيرة مريوط من الجنوب، وعمليات الردم سوف تؤدى إلى احتباس حرارى سوف يخنق بدوره المدينة، وهذا بالطبع ضد الصحة العامة، أما الحوض الرئيسى للبحيرة الذى تحدث فيه أعمال الردم حالياً فقد كان يأتى منه أنظف أنواع السمك، الذى كان يتغذى من مياه الشرب التى تأتى من ترعة الفرخة إلى مخزن الإسكندرية، وكان هذا الحوض تتم فيه تربية السمك البلطى والبورى والبط.. باختصار كان عبارة عن أمن غذائى يباع فى أكشاك تابعة للمحافظة. ■ وماذا عن الأحواض الأخرى؟ - فى إحدى السنوات قام أحد المحافظين السابقين لمدينة الإسكندرية بإصدار قرار بإنشاء الحديقة الدولية على غرار الحديقة الموجودة فى القاهرة، وذلك على حوض يسمى حوض ال3000 فدان، وتم ردم الحوض فعلاً بقمامة مدينة الإسكندرية، أى أن الأساس أصبح خرابا، بعد استخدام مواد عضوية متحللة، الأمر الذى أعاق نمو النباتات التى كانت تزرع فى الحديقة، وهو ما أدى إلى فشل المشروع، وبدلاً من الاعتراف بالخطأ وجدنا المحافظة تزحف على باقى الحوض وتقيم عليه المشروعات التجارية من نوادٍ ومحال بطريقة عشوائية إجرامية، وهذا الحوض تحديداً كنت قد بدأت أجرى عليه الأبحاث عام 1985، وكان من الممكن أن يكون نموذجاً لإصلاح البحيرة قبل أن تجور عليه عمليات الردم. ■ دعنا نتحدث عن ملوثات بحيرة مريوط؟ - معروف أن الإسكندرية بها حوالى 50% من مجموع مصانع مصر، وعدد كبير من هذه المصانع موجود حول بحيرة مريوط بالقرب منها، وهذه المصانع تقوم بصرف مخلفاتها دون معالجة داخل البحيرة، وهى مخلفات تحتوى على الزئبق والرصاص والحديد والمنجنيز والزنك والنحاس. ■ والتلويث الزراعى؟ - هناك مصرفان زراعيان يصبان فى البحيرة، أسوأهما مصرف القلعة الحامل والناقل لمياه آسنة عديمة الأكسجين محملة بمواد عضوية على هيئة تجميع للمياه الملوثة من المصارف والحقول والمنازل فى منطقة شرق إسكندرية، وهى آتية من منطقة أبيس، وتصب فى وسط الحوض الرئيسى لبحيرة مريوط، وهذه المياه ذات رائحة كريهة تنبعث منها رائحة غاز كبريتيد الأيدروجين السام، ومن يأتى مسافراً من القاهرة للإسكندرية يشم هذه الرائحة. المصرف الآخر هو مصرف العموم، وهو ينقل مياها شبه نظيفة من التلوث الآدمى والصناعى، ولكنها محملة بالمخلفات الزراعية حيث إنه ينقل الصرف الزراعى من حقول البحيرة ويصب جزءاً منه فى غرب الحوض الرئيسى لمريوط. ■ ما أشكال التعدى على بحيرة مريوط؟ - التعدى على بحيرة مريوط يتم من مصدرين أساسيين، المصدر الحكومى الرسمى وهو ما لا أستطيع تحديده لأن هناك مشاريع قائمة، وهناك تعدٍ فردى تم عن طريق موافقات، أعطيت لأفراد يقومون بمقتضاها بالتعدى على البحيرة، وكانت هيئة الثروة السمكية قد كونت لجنة واشتركت فيها لمحاولة التصدى لهذه التعديات، وتمكنا من التصدى قدر المستطاع، وأنا، كمتخصص، أعلن أن التعدى على جسم مائى يعتبر جريمة بكل المقاييس. ■ هل يمكن أن تذكر لنا نماذج من تصدى اللجنة لأعمال التعدى؟ - أذكر أنه كانت هناك محاولة لاستقطاع جزء من حوض ال3000 فدان من قبل أحد الأشخاص لإنشاء معمل تكرير بترول عليه، فلم توافق هيئة الثروة السمكية، وعهدت إلى اللجنة بمعاينة المكان، فذهبنا وفوجئنا بأن هذا الحوض صالح للإنتاج السمكى، وكان صاحب المشروع يدعى أن ملوحته وصلت إلى 200 فى الألف، غير أننى وجدت أنها صالحة لإنتاج الأسماك البحرية، وكذّبنا هذا الموضوع وكان مع صاحب المشروع بعض الموافقات من المسؤولين الكبار وتوقف المشروع بعد أن تصدت اللجنة له. ■ كيف ترى إقامة مشروعات على جسم البحيرة؟ - أنا كخبير أؤكد أن إقامة مشروعات على جسم البحيرة تعتبر إجراما مهما كان عائدها المادى. ■ حتى لو كانت الحكومة هى التى تقيم هذه المشروعات؟ - حتى لو كان العفريت الأزرق، المفروض إن الحكومة تجعل من هذا المكان (حوض ال3000 فدان) مزرعة سمكية، لأن هذا المكان هو الوحيد الذى تنمو فيه الأسماك نظيفة لأنها تتغذى من مصرف العموم، وأنا أحذر من أنه إذا استمر التعدى على بحيرة مريوط التاريخية التى يصل عمرها إلى أكثر من 4000 عام منذ أيام الفراعنة سوف تختفى البحيرة من الوجود وتصبح أثراً بعد عين، وهذه كارثة من الكوارث البيئية سوف يحاسبنا عليها العالم. ■ بعد كل ما ذكرت.. أين يكمن الحل؟ - الحل ذكرته منذ الستينيات، عندما وضعت روشتة لعلاج الوضع تتكون من عدة نقاط لو أُخذ بها فى ذلك الوقت لبقيت البحيرة على مسطحها، ولأمكننا فى ذلك الوقت استخراج الأسماك صالحة للاستهلاك، وما زلت أؤكد أن هذه الروشتة صالحة للتطبيق، أما إذا تم تجفيف ما تبقى من البحيرة فلا إصلاح بعد الردم. والروشتة تتلخص فى معالجة المياه التى فى بحيرة مريوط من الصرف الآدمى بإزالة المادة العضوية، وزيادة الأملاح المغذية، وعلاج الصرف الصحى والصناعى، وترشيد استخدام المبيدات الحشرية والمخصبات الزراعية، وشفط الرواسب السوداء الآسنة المتراكمة على قاع بحيرة مريوط بطريقة علمية بحيث لا تعكر عمود المياه وإبعادها عن المنطقة، وإزالة الكثافة النباتية المتراكمة فى البحيرة بوفرة لأنها تعوق تبادل غاز الأكسجين من الجو، إلى غير ذلك من بعض التوصيات، وأنا مستعد لمن يهمه الأمر لأن أعرض الموضوع على أى صاحب مسؤولية يكون على استعداد لأن ينفذ ما ننصح به فى محاولة أخيرة لإصلاح ما أفسده الإنسان فى بيئته المائية.