فى مرحلة الصبا، كثيرا ما قرأت عن روبين هود، اللص الشريف الذى كان يحتمى بالغابة ويقطع الطريق على الأثرياء وأصحاب الإقطاعيات ليقوم بعد ذلك بتوزيع المغانم على الفقراء والمحتاجين، لذلك سمى اللص الشريف . وفى العصر الحديث، كان لابد أن تواكب الروايات أو تحاكى قصص روبين هود، فجاءت روايات أرسين لوبين الفرنسية لتعطى صورة عصرية للص الشريف، الذى يعرض نفسه للخطر وللسجن بسبب مبادئه التى تدفعه لمساندة الفقراء. وإذا كانت القصص الغربية ثرية بالحكايات عن هذا اللص الشريف، فالواقع المصرى لا يقل ثراء عن ذلك، وقد شهدت فترة ما بعد الانفتاح وحتى الآن نماذج عديدة للصوص يبدو من مظهرهم الخارجى أنهم شرفاء ولكن فى الواقع هم لصوص حقيقيون، لكن لصوص على غرار لص نجيب محفوظ فى روايته اللص والكلاب. واللص هنا ليس الفقير الذى دخل السجن بسبب سرقة تافهة، ثم استولوا على بيته وزوجته وابنته، لكن اللص الحقيقى كان الصحفى المثقف، الذى زرع فيه أفكارا منحرفة بشأن المجتمع وظلمه له. لصوص الزمن الحديث يختلفون عن لصوص الأمس، فلص العولمة لا يسرق لكى يأكل، ولا يسرق لكى ينفق على أولاده أو أمه المريضة، كما أنه لا يسرق ما خف حمله وغلا ثمنه، لكنه يطبق المثل الذى يقول «إن سرقت اسرق جَمل». وبالطبع ونظرا لتغير سمات المجتمعات لم يعد اللصوص يسرقون الجِمال، لذلك هم يسرقون شركات ضخمة متعددة الأجنحة، أو شركات ضخمة لها توابع من الشركات الأصغر أو لها شقيقات من الشركات الأخرى، وفى كل الأحوال هى كيانات ضخمة. لقد كان المثل الخاص بسرقة الجَمل ينطبق على أزمان كان فيها الجمل سفينة الصحراء وكان من القيمة لدرجة أن يضرب بسرقته المثل، لكن الآن هناك كيانات عملاقة تسرق وتنهب. لم يعد لص نجيب محفوظ الغلبان يصلح لأن يكون لصا فى هذا الزمن، فاللص أصبح «باشا كبير»، فهو إما يستولى على الأراضى و«يسقعها» ليبيعها بعد ذلك بأضعاف ثمنها، أو يبيع الأراضى التى كانت ملك شركته أو الشركات التابعة لشركته، وهنا حقه محفوظ فالعمولة لا تمس وهى بالملايين. لص الزمن الحالى يرتدى أحدث الثياب، البدل من الخارج والكرافتات أيضا، المصيف فى أوروبا والسياحة صيفا وشتاء على نفقة الشركة، والحجة شراء ماكينات جديدة، أو التعاقد على صفقات لترويج السلع التى تنتجها الشركة، أو المشاركة فى معارض فى الدول العربية، وغير ذلك من السفريات التى تعد أبوابا لصرف بدلات السفر بالآلاف أو تحصيل العمولات بالملايين. أما التعامل مع الأجهزة الرقابية فأمره سهل، الاستعانة بمحاسبين لن يروا رحمة ربنا، لأنهم يقلبون الحق باطلا ويقلبون الباطل حقا، وبالتالى ليس الأجهزة الرقابية وحدها التى لا تعلم شيئا عن لصوص الزمن الحديث، لكن ولا الجن الأزرق - والحقيقة لا أعرف لماذا الجن يكون أزرقا وليس أى لون آخر - يعرف عن أى حاجة. المسألة تكون محصورة بين رئيس الشركة والمحاسب الرئيسى، وربما يكون هناك شخص ثالث يقوم بتوريد الأموال، ولا رابع لهم، لذلك، السر فى بير عميق لا يعرفه أحد. من الأساليب التى يتبعها لصوص الزمن الحديث، أن يضع اللص الجنتلمان على رأس كل شركة تابعة أو شقيقة، شخصية تدين له بالولاء، فمرة تابع له مستفيد ولا يجرؤ على الوشاية به، وأحيانا سكرتيرته لتكون صمام الأمان، وأخرى نسيب أو قريب له، وهكذا يضمن أن الحلقات كلها مغلقة ولن يكتشف أحد سره، وفى نفس الوقت هو يبعد المشاغبين الذين يعرف أنهم لن يسكتوا لو عرفوا بانحرافاته. الغريب أن كل اللصوص تتشابه حكاياتهم، فهم تعميهم سطوة المال وتجعلهم يتصرفون وكأن لا أحد يراهم أو يعرف ما يفعلونه، والغريب أن معظمهم يسقط فى اللحظة التى يعتقد فيها أنه على وشك الفرار بغنيمته، وكثير منهم سقط بالفعل، لكن الآخرين لا يتعظون. وأقول لكل لص يظهر فى ثوب الرجل الشريف، صحيح أن الأزمان والعهود اختلفت لكنك فى النهاية لص، ولم يعد هناك ما يسمى اللص الشريف الذى تحاول أن تدعيه، فاللص.. لص، مهما ارتدى من الثياب الفاخرة ومهما ادعى التقوى والصلاح، ونهايته قريبة مهما اعتقد أنها بعيدة.