تحدثت فى مقال سابق نشر بجريدة «المصرى اليوم»، بتاريخ 15/6/2009، عن الانتخابات النيابية اللبنانية، والطريقة الحضارية المتقدمة التى جرت بها، وعن إمكان إجراء الانتخابات النيابية المصرية والرئاسية فى مصر بهذه الطريقة المشرّفة التى تتناسب مع مكانة مصر فى قلب العالم العربى، بل العالم كله، باعتبارها مهد الحضارة، وقلت إننى سأستأنف الحديث عن وسائل إجراء هذه التجربة فى مصر. وفى الحقيقة أن إجراء أى انتخابات حرة نزيهة فى أى بلد يتوقف على الإرادة السياسية لهذا البلد، ولا نعنى بالإرادة السياسية إرادة الحكومة التى تجريها، إنما أعنى إرادة الشعب الذى تجرى فيه هذه الانتخابات ومدى رغبته وإصراره على ذلك مهما كان الأمر شاقاً وعسيراً، لأنه إذا لم تكن لديه هذه الرغبة ولم يكن لديه الاستعداد للدفاع عنها والتضحية من أجلها وإشعار الحكومة القائمة التى تجربها بأن ثمن العبث بها سيكون غالياً بالنسبة لها فإنه لن يستطيع إجبارها على الحيدة والنزاهة فى إجرائها، لأنه لا يوجد حاكم فى الدنيا مهما كان إيمانه وزهده فى الحياة يرغب فى مغادرة كرسى الحكم مادام يستطيع البقاء فيه، وما شاهدناه من سوار الذهب فى السودان ونيلسون مانديلا فى جنوب أفريقيا أمثلة نادرة من الصعب تكرارها. لابد من الكفاح إذن من أجل إجبار الحكومة - أى حكومة - على إجراء انتخابات حرة نزيهة تحترم فيها إرادة الشعب فى الاختيار، وتوضع هذه الإرادة موضع التنفيذ، وتجارب الشعوب فى هذا الشأن كثيرة ومتعددة يمكن الاستفادة منها فى حالة وجود هذه الإرادة، فكل البلاد الديمقراطية والبلاد الأخرى التى نريد أن نحذو حذوها تعرف هذه الطرق وتنفذها وتحرص عليها، ولا تسمح لأحد بأن يخرج عليها، ومن يخرج عليها يلق بنفسه فى التهلكة ويكن مصيره الفشل فى نيل ثقة الناس، وقد يؤدى به إلى السجن إذا كان الخروج شديداً. أول خطوة من أجل الديمقراطية وإجراء انتخابات حرة نزيهة هى وجود الوعى الشعبى بأن هذه الانتخابات هى السبيل الوحيد للتقدم والرقى والخلاص من جميع المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التى تصادفنا، وليقين الشعوب من ذلك فقد أخذت تتفنن فى الوسيلة التى بها تستطيع أن تجرى هذه الانتخابات فى نزاهة وحرية، وبأكبر قدر من الدقة والراحة لأفراد الشعب الراغبين فى المشاركة فيها، وهو ما يحدثنا عنه الأستاذ جمال محمد غيطاس، الباحث فى المركز الاستراتيجى للأهرام، فى كتابه الرائع «الديمقراطية الرقمية» الذى عندما أهداه إلىّ ظننت أننى أمام كتاب علمى بحت يحوى أرقاماً ومعلومات تفوق قدرتى على فهمها واستيعابها. ولكنى وجدت الرجل قد بذل قصارى جهده فى تبسيط هذه المعلومات حتى صار لمثلى من أعداء الأرقام والتكنولوجيا الحديثة بحكم السن أن يستوعب كثيراً مما جاء به، الأمر الذى دفعنى لقراءته عن آخره، بل إعادة قراءة بعض موضوعاته أكثر من مرة لأننى وجدتها مفيدة كثيراً فى خدمة ما نحن مقدمون عليه من انتخابات برلمانية ورئاسية، وأول ما يجب الاستفادة منه والعمل به هو تنقية كشوف الانتخابات باعتبارها القاعدة الرئيسية فى هذا الشأن التى دون تنقيتها نكون مثل من يحرث البحر لا فائدة جنى ولا مجهوداً أبقى، ويحاول الرجل ما فى طاقته وطاقة العلم والتكنولوجيا الاستفادة بخبرته ومعلوماته فى هذا الشأن عن طريق الرقم القومى الذى يجد فيه الأساس القوى لإمكان إجراء ضبط وتنقية هذه الكشوف، البلاد الحرة الديمقراطية المتقدمة التى ذاقت طعم الانتخابات النزيهة. وعرفت أنها الطريق الوحيد لاكتشاف أبنائها الأكفاء القادرين على تحقيق التقدم والرقى والوصول بها إلى بر الأمان، تتفنن فى كيفية إجرائها والوصول بها إلى حد الكمال كى لا يشوب إجراءها أى شائبة تؤثر على نتيجتها الأمر الذى أوصلها إلى اختراع طريقة آلية لإجرائها، وهى ما يحدثنا عنه الأستاذ جمال محمد غيطاس فى كتابه «الديمقراطية الرقمية» فيقول: إذا ما تصورنا - مجازاً - العملية الديمقراطية كخط إنتاج به مرحلة المدخلات ثم مرحلة التصنيع ومعالجة المدخلات ثم مرحلة المخرجات والحصول على المنتج النهائى، فيمكننا القول إن مظاهر الديمقراطية المختلفة - كحرية التعبير والفكر والحق فى التغيير والمحاسبة وتقييم الأداء وغيرها - تقع فى مرحلة المدخلات بالنسبة للعملية الديمقراطية، بينما تمثل مرحلة التصنيع والمعالجة وتجسد نتائج التصويت مرحلة المخرجات والمنتج النهائى، وبعبارة أخرى يمكن القول إن الانتخابات - أياً كان نوعها أو مستواها أو مجالها - هى الأداة أو الماكينة التى تتحول بها المظاهر الديمقراطية المختلفة من حالة ذهنية فكرية إلى فعل عملى يقود إلى التغيير الحقيقى على الأرض، كتداول السلطة وإزالة فريق من الحكام لم يعد مقبولاً من الشعب والمجىء بآخر وإلغاء سياسات معينة وإقرار أخرى بديلة. والآن وحينما نتحدث عن الديمقراطية الرقمية، ونقترب من الانتخابات كآلية من آليات التجسيد العملى للديمقراطية نجد أن الوجه الرقمى للانتخابات ينصب فى الأساس على تغيير طبيعية هذه الماكينة من بيئة العمل اليدوى القائم على الورقة والقلم وذهن موظفى ومديرى الانتخابات، وتنتقل إلى بيئة العمل الرقمية التى يتنازل فيها الورق، والقلم عن عرشهما، وينزويان بعيداً ليفسحا المجال للممارسات الإلكترونية وشبكات الاتصالات وشبكات المعلومات والبرمجيات المتقدمة والنظم المتخصصة فى معالجة أحجام ضخمة من البيانات فى كسور من الثانية. وهكذا عندما عرف العالم الحر ميزة الانتخابات النزيهة أخذ يفكر ويخترع ويجدد فى طريقة إجرائها، لكى يصل إلى أعلى مستوى فى أدائها، يمكن أكبر عدد ممكن ممن لهم حق المشاركة فيها من القيام بهذه المشاركة، كما يمكن أن يضمن لها أكبر قدر من النزاهة فى النتائج حرصاً منه على إقناع الناس بجدوى المشاركة فيها وأن مشاركتهم هى الأساس فى صحة نتائجها التى ستعود بالخير عليهم وعلى بلدهم ومستقبل أبنائهم، وهذا ما نريد أن نصل إليه فى مصر الغالية التى تستحق منا كل جهد وتفكير من أجل إصلاحها والنهوض بها من كبوتها التى طال أمدها، وأصبح المستقبل مهدداً إن لم يتم إصلاح أحوالها.