لم يخطر ببالى أن يجىء اليوم الذى أستغرب فيه أن تزعق سيارة نقل بكلاكسها المزعج فى ظهر سيارتى كى أفسح الطريق، وأن يكون المكان الذى شهد استغرابى داخل حدود المحروسة! تسألوننى لمَ الاستغراب ونحن نعيش هذا الشعور فى اليوم الواحد مرات وعادى جدا أن تنبح أصوات السيارات فى وجهك ويشتمك سائقو النقل العام والميكروباصات وأحيانا تجىء الإهانة من زميل ملاكى هذا تحديدا هو مصدر الاستغراب لأننى وجدت نفسى فى مكان محترم لا يتسامح مع مثل هذه التحرشات المرورية. حتى لا أطيل عليكم كان هذا المكان هو «الجونة» شمال مدينة الغردقة وهى المكان الوحيد فى مصر الذى أعرف يقينا أنه لا يسمح بتجاوز من هذا النوع. الحقيقة ليست هذه إلا مقدمة أردت من خلالها تناول مدينة «الجونة» كنموذج ناجح فى الإدارة والتنمية. إنها مدينة كاملة يُحترم فيها القانون (سواء كان قانون المرور أو الإنشاءات)، وتأمن فيها على نفسك. لم يكن للجونة وجود على الخريطة المصرية منذ عشرين عاما وقد بدأت تبنى نفسها بيوتا وفنادق ومنشآت ترفيهية ومحال وخدمات خطوة خطوة حتى وصلت إلى استيعاب 15 ألف قاطن دائم إلى جانب أضعاف هذا الرقم من طالبى الإجازة. وقد تغير إحساسى بالمدينة منذ أن وطأتها قدماى للمرة الأولى. فى البداية شعرت أن هذا المكان الأخضر ببحيراته الصناعية وبيوته وملاعب الجولف فيه يبدو صناعيا بامتياز. ومع تكرار زياراتى تبدل إحساسى بالمكان لأننى تخطيت النظرة الأولى التى تراه مصنوعا وبدأت أدرك أن المدينة ليست مجرد منتجعا للأثرياء ولكنها مكان على أرض مصر يحترم ساكنيه وزائريه بتطبيق نظام صارم لكل شىء من المرور إلى المبانى التى لا يملك أصحابها إدخال تعديل عليها إلا بموافقة المدينة لضمان غياب أى شذوذ معمارى أو قبح. وتأكدت أن القائمين على المكان قد غيروا من ثقافة المصريين فلا ترى تأففا من بائع ولا نظرة متحرشة من منظمى المرور الكثر الموجودين فى كل مفترق طرق ولا يمكن أن تسمع كلاكس سيارة. والمدينة لم تفتح فقط أبواب الرزق لآلاف المصريين ولكن الأهم هو أنها قد خلقت لهم مكانا بديلا للعيش مع أسرهم، وهو مكان يمنحهم مدرسة تجريبية لأولادهم لا يسمعون فيها كلمة خارجة أو يتعاطون بسببها الدروس الخصوصية. وقد جاءنى هذا الكلام من فم أحد العمال القاطنين فى المدينة. لابد من توجيه التحية لحلم الجونة الذى يؤكد أننا قادرون على الإدارة والنظام وإنجاح المشروعات الكبيرة، وهى تجربة لا أعلم كيف يمكن لحكومتنا الذكية أن تستفيد منها (أم أن هذه الفكرة تدخل فى نطاق الأوهام)؟ وقد دفعنى تأمل الحلم إلى بلورة اقتراح للقائمين على المشروع. الفكرة موجودة فى بلدان كثيرة ليس من بينها مصر: بيتٌ للكتَّاب، بيتٌ لا يضم إلا غرفا أربع تستضيف كتابا من أنحاء العالم (وليس من مصر) فى دورات متتابعة مدة كل منها شهر. ولن تتحمل الجونة تذاكر سفر الكتاب من وإلى مصر، عليها فقط أن توفر لهم الإقامة والطعام. ويمضى كل منهم شهرا مكرسا للكتابة فى مكان محرض على الكتابة بامتياز. تصوروا لو أن ثمانية وأربعين كاتبا من أنحاء العالم قد قضى كل منهم فى مصر شهرا كى ينجزوا مشروعاتهم الإبداعية ويعودوا إلى بلدانهم وقد انطبع المكان والتجربة فى ذهن وقلب كل منهم!